للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

- منذ ثلاثة شهور دعيت إلى جانب هذه العجوز وهي على فراش الموت، وكانت قدمت في عربتها التي اتخذتها مسكناً لها وآلة ركوب تطوف البلدان عليها. يجر هذه العربة فرس مهزول ناحل لا شك أنكم رأيتموه. ويصحب العجوز كلبان أسودان هما صديقاها وحارساها. كانت دعت القسيس أيضاً لتكشف لنا عن رغباتها الأخيرة فنكون منفذين لوصيتها. فقصت علينا جميع أطوار حياتها. الحق إنني لم أسمع قصة أشد تأثيراً في النفس وأكثر غرابة في الأذن من قصتها. كانت حرفة والديها صنع الكراسي. ولم يكن لها سكن خاص في أرض معينة، فإنها طفلة كانت تطوف البلدان ممزقة الثياب معتلة الجسم يثير منظرها نفوراً واشمئزازاً. وكان أبواها كلما بلغا إحدى القرى وقفا عند مدخلها وأنشأ يصلحان الكراسي العتيقة والمقاعد القديمة تحت ظل الأشجار وهي تتدحرج لاعبة ضاحكة خلال أعواد العشب المشرئبة. فإذا ابتعدت قليلا عنهما أو أخذت في الحوار مع الصبية، فإنها لا تلبث أن تسمع صوت أبيها المغضب يقول لها: (ارجعي يا وقحة). فكانت هذه الجملة، الجملة الوحيدة التي تسمعها من أبيها

ولما ترعرعت بعض الشيء أرسلاها تلتقط أو تبتاع ما فسد من المقاعد. فكانت في تنقلها من مكان إلى مكان تتعرف إلى الصبيان وتأنس إلى الحديث إليهم. على أن ذويهم كثيراً ما صدوهم عنها وهم ينتهرونهم أشد الانتهار، ومنهم من كان يقول لولده: (ألا اقطعن الكلام مع هذه الشريدة الحافية الأقدام)

أما الفتية الصغار فما أكثر ما قذفوها بالحجارة من غير أن ينبس فوهها بكلام! وكان بعض النسوة أعطينها قليلا من دراهم، فاحتفظت بها وحرصت عليها

وبينما كانت تجوز هذا البلد في أحد الأيام وقد بلغت الخامسة عشر ربيعاً من عمرها، إذ صادفت خلف المقبرة شوكه الصغير وهو يبكي أحر البكاء، لأن رفيقاً له سرقه درهمين. فآلمها وهي البنت المسكينة، أن ترى طفلاً حضرياً يذرف دموعاً سخينة من حيث لا مواسي له ولا صديق. فدنت منه وما كادت تقف على سر بكائه حتى وضعت في يديه تلك الدراهم القليلة التي احتفظت بها. وكان طبيعياً أن يبتهج الطفل بالدراهم فأخذها ومسح دموعه. وكان منها أن جنَّت فرحاً بعمله، فأنشأت تعانقه وتضمه إلى صدرها وتقبله تقبيلاً حاراً دون أن يمانع الولد أو يصدها عنه لأنه كان لاهياً بفحص النقود

<<  <  ج:
ص:  >  >>