ولم يكن أحد يعلم ماذا جال في رأس هذه التاعسة من خواطر وأحلام، أتعلقت به لأنها ضحت في سبيله بثروتها المتجمعة من التشرد والانتقال، أم لأنها منحته أول قبلة وثب قلبها لها؟
خفي ذلك على الصغار والكبار
وظلت أشهراً تتمثل في خاطرها زاوية المقبرة التي شهدت فيها هذا الغلام وشرعت تسرق أبويها ما تصل إليه يدها من دراهم أملاً في لقائه ومصدافته. وكان في يدها آخر الأمر فرنكان. على أنها هذه المرة بدلاً من أن تلمح فتاها في محل منعزل، رأته خلف قضبان حانوت أبيه: بهي الطلعة نظيف الثياب، والقناني الحمراء والخضراء والصفراء تحيط به من كل جانب. فازدادت له حباً وبه كلماً، وبهرها ما ألفت لديه من مجد بادٍ في هذه المياه المصبوغة، ومن جلال ظاهر في هذه الزجاجات البراقة
فاحتفظ خاطرها بذكراه مدة، حتى صادفته في السنة التالية خلف المدرسة يلعب مع رفاقه، فهجمت عليه وقبلته تقبيلاً عنيفاً ريع له الولد وأخذ في الصراخ. لكنها سرعان ما وضعت في يده ثلاثة فرنكات هش لها الغلام وطرب، وحملق في وجهها في دهش وتعجب تاركا نفسه لها تداعبه ما رغبت في المداعبة، تعانقه ما اشتهت من عناق
وظلت أربع سنوات تقدم إليه ما تجمعه فيأخذه منها مقدماً إليها القبلات عن رضى وسرور. أعطته مرة فرنكين ومرة خمسة فرنكات، وهي قطعة كبيرة جعلته يضحك لها ويرقص طربا
لم تكن تفكر إلا فيه؛ أما هو فكان ينتظر عودتها ويرقب شخوصها إليه بصبر فارغ وشوق لجوج، حتى إذا أبصرها، جرى إليها مسلماً خده لقبلاتها، ويده لدرهمها. وما أشد خفقان قلبها عند ذاك!
وتوارى الغلام حقبة من الزمن عن عيانها لأنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وعرفت هي انتقاله بمهارة وحذق، فأبلت في السياسة بلاء حسناً حتى حملت أبويها على المرور من هنا في الصيف. وكان مضى عليها سنتان دون أن تراه. فلما أبصرته كادت لا تعرفه. لأنها رأت أمامها بدلا من طفل الأمس فتى تفتحت ورود الصبا في وجهه، وابتسمت زهور