للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اليفاعة في قده

نظرت إليه نظرة شوق ولهف. وكان منه أن تظاهر بعدم رؤيتها، ثم خطا أمامها ببزته الأنيقة ذات الأزرار الذهبية يملأ صدره زهو وافتخار، ويعلو برأسه أنفة واستكبار

وانصرفت عنه والدموع تسح من عينيها والزفرات تتصاعد من قلبها. وأصبحت بعد ذاك العهد أليفة أحزان، وصديقة آلام

وانطوت الأعوام متوارية خلف حجاب الفناء، وفتاتنا لا تنقطع عن الشخوص كل عام إلى بلده لتراه دون أن تجرؤ هي على تحيته، ودون أن يتنازل هو بإلقاء نظرة عليها

كانت تهواه بكل جوارحها، وهاكم ما أسرته لي (إن هذا الرجل يا سيدي الطبيب، الرجل الوحيد التي رأته عيناي، وما علمت بعد ذاك إذا كان يعيش في العالم سواه)

ومات أبواها واستمرت في حرفتهما، وقد صحبت من بعدهما بدلا من كلب واحد، كلبين هائلين يخشى الدنو منهما

وكان يوم دخلت في هذا البلد، فرأت امرأة في نضارة الصبا وربيع الحياة تصحب شوكه حبيبها، وقد تأبطت ذراعه وهما يخرجان من الحانوت معا

لقد تزوج إذن شوكه!

وفي مساء اليوم ألقت نفسها في الغدير القائم خلف المحكمة. واتفق أن رجلا كان يمر هناك، فأنقذها وقادها إلى منزل شوكه، فنزل هذا لعلاجها، ودلك بيديه مكان الألم من جسمها دون أن يتظاهر بعرفانها. ثم ما لبث أن قال لها بصوت جاف: (أأنت مجنونة؟ لا ينبغي أن تكوني هكذا حيواناً)

هذه الجملة وحدها بعثت فيها البرء والشفاء. ألم يتكلم إليها؟ حسبها ذلك! وظلت هائمة مغتبطة أمداً طويلا

قضت كل حياتها تذكر شوكه ولا تفكر في غيره. وكانت تلمحه في سنيها خلف الزجاج، وما أكثر ما ابتاعت عقاقيره وأدويته لا تبغي من شرائها إلا رؤيته والحديث إليه

وكما ذكرت لكم بديا، ماتت هذا الربيع وقد رجتني بعد أن قصت عليّ قصتها أن أحمل إلى هذا الذي أحبته حب العابد لمعبوده، جميع ما ادخرته من مال. لأنها كما اعترفت لم تشتغل إلا لأجله، تجوع أحياناً لتدخر له بعض المال. فإن ذكرها بعد وفاتها مرة واحدة فستشعر في

<<  <  ج:
ص:  >  >>