الماء البارد في صميم الشتاء، وكنت لا تلبس في أشد أيام البرد غير ثياب الصيف، وكنت تحمل كذا وكذا ثقلاً وتعاني كذا وكذا من ضروب القوة، وكنت تلوي بيديك عود الحديد وكنت وكنت
فتذممت والله مما خطر لي؛ وأنفتُ أن أنبه الرجل، ورأيت عملي ضعفاً وفسولة، ولم أعبأ بالهواء ولا بالعرق ولا بالنزلة الشعبية ولا بالزكام، وتركت الأوربي وشأنه، وأقبلت على كتاب كان في يدي وتناسيت أن هذه النافذة جهةٌ من تدبير إبليس؛ وكان القطار مزدحماً بالراجعين من المعرض الزراعي الصناعي وبعض الناس وقوف فلا مطمع في مكان آخر. . .
ولبثت ساعة ونصف ساعة في تيار من هواء فبراير ينصب انصباباً ويعصف عصفاً وكأني أسبح منه في نهر تحت ظلمة الليل الماطر، والناس معجبون بي وبالأوربي، وهذا الأوربي معجب بي أكثر منهم وقد رأى مكاني وعرف موضعي؛ وكان إلى يميني مجلس بقى خالياً ولم يقدم أحد على أن يجلس فيه خوفاً من الهواء ومن الرجل الأوربي. . .
ثم تراءيتُ أنوار محطة (طنطا) ولم يبق من هذه المحنة غير دقيقتين؛ فوالله الذي لا يحلف بغير اسمه عز وجل، لقد كان إبليس رقيعاً جلفاً بارداً ثقيل المزاج إذ لم أكد أتهيأ للقيام حتى رأيت الرجل الأوربي قد مدَّ يده فأغلق النافذة. . .
ورجعت إلى داري وأنا أقول: ثم ماذا يا إبليس؛ ثم ماذا أيها الدُّعبب؟ وحاولت أن أكتب أو أقرأ فلم أتحرك لشيء من ذلك، وكانت الساعة العاشرة ليلاً فصليت وأويتُ إلى مضجعي
ثم أصبحت يوم السبت فإذا كتاب من الأستاذ صاحب (الرسالة) أنه سيطبع عددين معاً فيريد لهما مقالتين إذ تغلق المطبعة أيام عيد الأضحى، وكان أملي في المقالة الواحدة مخذولاً مما قاسيت فكيف لي باثنتين؟
واختلط في نفسي همٌّ بهمّ وما يفسد عليَّ أمري شيء مثلُ الضيق فإذا تضايقت كنت غير من كنت؛ ولكني تيقظت وتنبهت وأملت العافية مما أجده من ثقلة البرد وضعفته، وأحدثت طمعاً في النشاط إذا جلست للكتابة في الليل فإني بالنهار أعمل للحكومة
فلما كان الليل لم أجد أمري على ما أحب، وجلست متفترا معتلاًّ وثقل رأسي من ضربة النافذة وتسلط علي ظن المرض والعجز عن الكتابة، وانتقض الأمر كله فرأيتني أشقُّ على