فصادفت تراماً آخر، فوثبت إليه كأني أُحمل إليه حملا، ودفعت الأجرة، وانطلق فإذا هو منصبُّ في تلك الطريق عينها الذاهبة إلى الجيزة من حيث جئت. . . ولا أستطيع الانحدار منه وهو منطلق، فتسخَّطت ولعنت الشيطان مرة أخرى، ورأيت أن عبثَه قد ترادَفَ، فلما سكن الترام رجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب ولم يبق من الوقت غير قليل
وأنظرُ ثمَّ فإذا ترامٌ وراء ترام، وإذا قد وقعت حادثة لإحدى السيارات واجتمع الناس وسُدَّت الطريق. . . . فجعلت أغلي من الغيظ، ولعنت هذا الدعابة الخبيث، واذكرني اللعين نادرة الأعرابي الذي عضه ثعلب، فأتى راقياً، فقال له الراقي: ما عضك؟ فاستحى أن يقول ثعلب، وقال: كلب، فلما ابتدأ الرجل برقية الكلب قال له الأعرابي: واخلط بها شيئاً من رقية الثعالب. . . . .
ثم إني لم أر بدا من بلوغ المحطة على قدمي لأتمّ على عزيمتي في مراغمة اللعين، فأسرعت أطوي الأرض وكأنما أخوض في أحشائه، وكان بصدري التهابٌ فهاج بي، غير أني تجلدت واتسعت لاحتماله وبلغت حيث أردت
ثم ذهبت ألتمس في القطار عربة خاصة أعرفها، كانت من عربات الدرجة الأولى فجعلوها في الثانية يرفهون بها بعض الترفيه على طائفة من المسافرين؛ وأصبت فيها مكاناً خالياً كأنما كان مهيأ لي بخاصة. . . فانحططتُ فيه إلى جانب رجل أوربي أحسبه ألمانياً لتفاوت خلقه وعنجهيته؛ وجلست أنفس عن صدري ثم أقبلت أسخر من إبليس ونكايته، وجعلت أتعجب مما أتفق من هذا التدبير
وتحرك القطار وانبعثت وكان الأوربي إلى جانبي مما يلي النافذة وقد تركها مفتوحة فأحسست الهواء ينصب منها كالماء البارد وأنا متند بالعرق؛ وترقبت أن يغلقها الرجل فلم يفعل، فصابرته قليلاً فإذا هو ساكن مطمئن يتروح بالهواء وكأنما يشربه، وتأملته فإذا شيخٌ في حدود الستين أو فوقها غير أنه على بقية من قوة مصارع في اكتناز عضله واجتماع قوته ووثاقة تركيبه، فأيقنت أن الهواء من حاجته، وهممت أن أنبهه أو أقوم أنا فأغلق النافذة، ولو شئت أن أفعل ذلك فعلت، غير أن الشيطان أخزاه الله وسوس لي أن هذا الرجل أجنبي غربي وأنت مصري شرقي فلا يحسن بك أن تُعلمه وتعلم الحاضرين أمامكما أنك أنت الأضعف على حين أنه هو الأسن، وكيف لا تقوم لما يقوم له وقد كنت تباكر