بعده الشافعية أيضاً؛ لكننا لا نجد أحاديث تؤيده. وهكذا يظهر من مقارنتنا للأحاديث بالمذاهب الفقهية تطوّر بيّن يتجه اتجاها معينا
فأحكام القصاص - وهو مثالنا الثاني - مبنية على آيات عديدة، منها الآية التالية:(يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقد فسرت هذه الآية تفسيرات مختلفة. منها تفسير يلوح أنه مطابق لمعناه الظاهر، يفيد في الواقع أن رجلا حراً لا يمكن أن يُقتل إلا في رجل حرّ وفي المرأة امرأة فقط، وأنه في الحالات الأخرى يجب أداء الدية بدلا من القصاص. ويزعم أصحاب ذلك التفسير في نفس الوقت أن هذه الآية قد نسختها آية أخرى تنص على القصاص العام وهي الآية الآتية:(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). كذلك أجمعت المذاهب الآن على أن الرجل يُقتصّ منه بالمرأة. وقد فسرت الآية الأولى أيضا بهذا المعنى استناداً إلى حديث لا شك في صحته مؤدّاه أن النبي أمر بقتل رجل في امرأة. ومع هذا كله فقد وُجد الرأي القائل بأنه لا ينبغي أن يُقتل رجل في امرأة، ويُذكر من أصحاب هذا الرأي عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، ولكن لا يكاد يوجد حديث يؤيد هذا الرأي، وهذا المثال يفيدنا علماً بأنه - ولو أن كل حديث يطابق قولاً فقهياً - فالعكس ليس كذلك وأن بعض الآراء الفقهية يمكن أن يكون مستقلا عن الأحاديث. ومثل هذا يُقال في مسألة العلم بهل يقتل كثيرون في شخص واحد إذا اشتركوا في قتله؟ ولما كان أصحاب هذا القول الذي أخذت به مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي يعوزهم حديث لا مطعن فيه، فقد كانوا مضطرّين أن يستندوا إما إلى حديث لم يكن دليلا قاطعاً وإما إلى آراء بعض القدماء، وهو مما أثار انتقادات خصومهم
ولعل هذا يكفي في وصف ذلك العصر الخصيب من تاريخ الفقه الإسلامي. وحسبنا أن نلاحظ ختاماً لهذه المسألة أنه يمكننا بالانتفاع بالمصادر الميسورة اليوم أن نفهم فهماً دقيقاً تلك الوظيفة التشريعية التي قامت بها شخصيّة قديمة كشخصية إبراهيم النخعي. وبهذه الإشارة إلى ميدان واسع لأبحاث مستقبلية عظيمة الشأن نختم هذا الحديث الأول