والمنعة له من قومه: فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتهم وأشرافهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته والقيام معه في الإسلام على من خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغرَوْا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه. ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل حٌبْلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من السفهاء
فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم في مجلسه قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى بعيد يتجهَّمني أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العُتْبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك
أَلا ما أكمل هذه الإنسانية التي تثبت أن قوة الخلق هي درجة أرفع من الخلق نفسه؛ فهذا فنُّ الصبر لا الصبر فقط، وفن الحلم لا الحلم وحده
قوة الخلق هي التي تجعل الرجل العظيم ثابتاً في مركز تاريخه لا متقلقلاً في تواريخ الناس، محدوداً بعظائم شخصيته الخالدة لا بمصالح شخصه الفاني، ناظراً في الحياة إلى الوضع الثابت للحقيقة لا إلى الوضع المتغير للمنفعة
وما كان أولئك الأشرافُ وسفاؤهم وعبيدهم إلا معاني الظلم والشر والضعف تقول للنبي العظيم الذي جاء يمحوها ويُديل منها: إننا أشياء ثابتة في البشرية
لم يكن منهم الأشراف والسفهاء والعبيد، بل كان منهم العسفُ والرِّق والطيش، تسخر ثلاثتها من نبي العدل والحرية والعقل فما تسخر إلا من نفسها
صغائر الحياة قد أحاطت بمجد الحياة لتثبت الصغائر أنها الصغائر وليثبت المجد أنه المجد. كان الفريقان هما الفكرتين المتعاديتين أبداً على الأرض: إحداهما عش لتأكل وتستمع وإن أهلكت؛ والأخرى عش لتعمل وتنفعَ الناسَ وإن هلكت
كانت الأقدار تبادي هذا الروح الواسعَ بذلك الروح الضيق لينطلق الواسعُ من مكانه