للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويستقبلَ الدنيا التي عليه أن ينشئها. فأولئك الأشراف والسفهاءُ والعبيد إن هم إلا الضيقُ والركودُ وذلُّ العيش، حول السعة الروحية والسموّ وطهارة الحياة

وقف المعنى السماويُّ بين معاني الأرض؛ ولكن نور الشمس ينبسط على التراب فلا يعفِّره التراب، وما هو بنور يضيء أكثر مما هو قوة تعمل بالعناصر التي من طبيعتها أن تحوِّل في العناصر التي من شأنها أن تتحول

وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أولئك المستهزئين قوةٌ أخرى هي القدرة التي تعمل بهذا النبي للعالم كله، وبهذه القدرة لم ينظر النبي إلى قريش وصوْلتهم عليه إلا كما ينظر إلى شيء انقضى، فكان الوجود الذي يحيط به غير موجود وكانت حقيقةُ الزمن الآتي تجعل الزمنَ الحاضر بلا حقيقة

والى هذه القدرة توجه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء الخالد يشكو أنه إنسان فيه الضعف وقلةُ الحيلة، فينطق الإنساني فيه بالشطر الأول من الدعاء يذكر انفراده وآثارَ انفراده ويتوجع لما بينه وبين إنسانية قومه؛ ثم ينطق الروحانيُّ فيه بعد ذلك إلى آخر الدعاء متوجهاً إلى مصدره الإلهي قائلاً أولَ ما يقول: إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أُبالي

ولعمري لو نطقت الشمس تدعوا الله لما خرجت عن هذا المعنى ولا زادت على قوله أعوذ بنور وجهك، تلتمس مصدر النور الأزلي حياطةَ وجودها الكامل

ولقد هزءوا من قبل بالمسيح عليه السلام فقال للساخرين منه: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته، وبهذا رد عليهم ردَّ من انسلخ منهم، وقال لهم قول من ليس له حكم فيهم، وأخذهم بالشريعة الأدبية لا العملية؛ إذ كان عليه السلام كالحكمة الطائفة ليست لكل قلب ولا لكل عقل، ولكنها لمن أُعدَّ لها، وشريعته أكثُرها في التعبير وأقلُّها في العمل، ولم تجئ بالقوة العاملة فلم يكن بدّ من أن تضع الموعظةَ في مكان السيف، وأن تكون قائمة على النهي أكثر مما هي قائمة على الأمر، وأن تكون كشمس الشتاء الجميلة لا تغلي بها الأرض وإنما عملها أن تمهّد هذه الأرض لفصل آخر

أما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يجب المستهزئين إذ كانت القوة الكامنة في بلاد العرب كلِّها كامنة فيه، وكان صدرُه العظيم يحمل للدنيا كلمة جديدة لا تقبل الدنيا أن تعامله عليها إلا بطريقتها الحربية؛ فلم يردَّ ردَّ الشاعر الذي يريد من الكلمة معناها البليغ ولكنه سكت

<<  <  ج:
ص:  >  >>