وما كان لباحث أن يسأل هذا السؤال، وما كان لهذا السؤال أن يدور في مخيلة مفكر، لو أن لنا بثقافتنا التقليدية صلة أو كان لهذه الثقافة علاقة بأدبنا، أو صلة بوطنيتنا. وإنما يدور هذا السؤال في مخيلة كل مفكر يحكم أننا قطعنا صلتنا بالماضي، وفرطنا عقد رابطتنا بمصر القديمة، وبالأحرى حللنا العقدة التي تصل بين حبل حياتنا الحاضرة والخيوط التي تتكون منها شبكة حياتنا الماضية، ولا شك في أن الفرد ثمرة الماضي، قبل أن يكون ابن الحاضر، وصلته بذلك الماضي صلة وراثة. أما صلته بالحاضر فصلة ضرورة
ولا مرية في أن هذا السؤال غير طبيعي في أمة أحكمت صلتها بماضيها، ووثقت روابطها بثقافة آبائها الأولين. فهو بمثابة أن تسأل مثلاً: أمن علاقة بين دمي الذي يجري في عروقي ودم جدي أو جد جدي؟ وهل بين تصوراتي ومشاعري وميولي، وبين طبيعة الأرض التي تغذيني والهواء الذي ينميني والسماء التي تظلني؟ ذلك بأن الأمم متى أحكمت صلتها بماضيها ونشقت دائماً عبير الروح الذي سرى في كيانها منذ أبعد العصور لن تشعر يوماً بأنها في محيط غير محيطها الطبيعي، أو أنها في بيئة غير بيئتها الفطرية، فيظهر أثر ذلك كله معكوساً في جماع مظاهرها وبخاصة في آدابها وفي وطنيتها. أما ونحن نشعر الآن بأن أدبنا أدب مصنوع لا أدب فطري، وأن وطنيتنا وطنية ظاهرية لا وطنية حقيقية، فإنه من الطبيعي أن نسائل أنفسنا عن سبب ذلك، ومن الطبيعي أن نجد الجواب في النظرية التي أدلينا بها من قبل في العلاقة التي تقوم بين المظاهر الاجتماعية والثقافة التقليدية التي تختص بها كل أمة من الأمم، وتختص مصر بصورة منها
قرأت منذ سنوات قصيدة في مجلة (أبولو) عنوانها (قبرة شيلي)، وعكفت كعادتي في كل ما أقرأ من المترجمات على مقابلتها بالأصل، فألفيت أن الشاعر المترجم قد أجاد في المحافظة على المعاني الأصيلة قدر ما تهيئ أوزان الشعر وقوافيه ومفردات اللغة العربية لمترجم أن ينقل شعراً من الإنجليزية إلى العربية، ولقد أحسن الشاعر المترجم سبك المعاني في قالب عربي يلائم روح التجديد مع المحافظة على جرس الأسلوب العربي، فأكبرت القصيدة وأعدت تلاوتها مرات مبالغ في الوقوف على ما فيها من أوجه النقد ووزنها على مقتضى المعايير التي أومن بها في تقييم الشعر، ولم ألبث أن أحللتها بين ما أعتقد أنه من جيد الشعر الحديث، غير أني بعد كل هذا كنت أشعر بأن في القصيدة ماهية أخرى تبعدها عن