للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

طبعي، وتقصيها عن تصوراتي وتجاريبي، وتلقي في روعي أبى غريب عن الجو الذي تخلقه من حولي. فلا الجو الذي وضعه (شيلي) وغشاه بالسحاب القاتم الشديد السواد هو الجو الذي أعرفه، ولا الغناء القوي الحنون الذي ترسله قبرته هو نفس الغناء الذي أعهده في قبراتنا، ولا لونها الأصفر الزِّرْيابي الذي يجعلها تحت السحب السوداء كأنها شرارة من لهب، هو لون القبرة المغبرة السفعاء التي آنسها في حقولي. كذلك رأيت في ذكر السيول والأمطار الغامرة التي ترسلها سماء إنجلترا شيئاً جديداً لا علاقة له بمحيطي ولا صلة له ببيئتي، وعلى الجملة شعرت بأني أقرأ خيالاً إنجليزياً في شعر عربي. خيال يجذبني من ناحيته إلى ثقافة غير ثقافتي التقليدية بل يقصيني عن تجاريبي ومشاهداتي، وأن كل ما تهيئ لي القصيدة من قدرة على التصور هو ما تحمل ألفاظها العربية من معانٍ أتخيلها تخيلاً وأصورها تصوير الحدس والوهم، وأن آلة الأداء، وهي اللغة العربية هي الناحية الوَحِدة التي تقربني بعض التقريب من الجو الشعري الذي تكيف به القصيدة مشاعري، ولا شك في أن الشعر شيء، وآلة أدائه شيء آخر، وإنما يكون الشعر متصلاً بطبع الإنسان متى استمد عناصره من ثقافة تقليدية لا يعنت التصور إدراكها، ولا يتعب الخيال تصويرها، فيشتمل على نواحي النفس ويخاطب الروح بديئة قبل أن يخاطب العقل

عقبت على هذا بقراءة قصة مترجمة عن كاتب روسي مشهور، فآنست فيها شططاً في الوصف ومغالاة في التقدير، وتحليلات نفسية معقدة غاية التعقيد، بعيدة كل البعد عن بساطة الروح المصري الذي آنسه في الفلاح الساذج الذي نشأت محوطاً بثقافته التقليدية، ولا أريد أن أبحث شخصيات هذه الرواية لأحكم أنه كان في الدنيا شخصيات حقيقية تقابل الشخصيات التي وضعها الكاتب وحلل نفسياتها، وإنما أريد أن أقول إن تحليل ذلك الكاتب مهما كان فيه من حق وبعد عن المغالاة، وسواء أكانت الصفات التي أضفاها على شخصياته تلك صفات يمكن لنفس بشرية أن تنطوي عليها، أم إنها شخصيات خيالية لا تقوم لها حقائق في الخارج، فجل ما أرمي إليه أن أقول إنها شخصيات لا تربطني بها رابطة ولا تصلني بها صلة، وأن محيطي الذي أعيش فيه ينكر وجودها وينفي حقيقتها، بالرغم من أن شخصاً آخر في محيط آخر قد يرى أنها شخصيات طبيعية، بل قد يجسمها خياله على مقتضى تجاريبه التي يشهدها في حياته

<<  <  ج:
ص:  >  >>