الغزوة كانت آخر عهد ملوك الفراعنة الذين تجري في عروقهم الدماء الوطنية بالحكم على ضفاف النيل والى آخر الدهور. فمنذ فتح الاسكندر خضعت مصر إلى ألف سنة لحكم هِلِّيني الحضارة من مقدونيين ورومان، وفي نهايتها صارت مصر جزءاً من جسم الإسلام، فبدلت تبديلاً، وأصبحت لها لغة أخرى، ونظام اجتماعي لا عهد لها به، ودين جديد، ونبذ الإلهة الذين عبدوا في مصر على أنهم آلهتها الخواص الآلاف من السنين نبذاً أبدياً، ثم دفنوا في ثراها
ومنذ ذلك التاريخ لم يفز مصري أصيل بالحكم على شطآن النيل، بل لقد مرت عصور طويلة كعصر البطالسة مثلا، لم يكن في الحكومة كلها من مصري شغل مركزاً أكبر من مركز صَرَّاف يجبي الأموال. بل رأى المصريون معابدهم المقدسة تستباح فيتخذها المقدونيون موضعاً للهوهم وعبثهم وسكرهم وعربدتهم ورأوا الفرس يذبحون عجلهم المقدس من قبل ذلك
ولقد كان لهذه الملابسات التاريخية آثار كيَّفتْ الوطنية المصرية فحدتها بحدود الحقل المقدس، وإنما صار الحقل مقدساً في عين المصري لأنه كان الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه فحماه من الانقراض التام. ولولا ذلك الحقل إذن لأصبحت مصر اليوم إما رومية وإما لاتينية. ولكن الحقل قام سداَ بين الغزاة وبين المصريين أين منه سد يأجوج ومأجوج. ذلك بأن ثرى مصر لا يزرعه إلا المصري ولن يقوى عليه غير المصري. لهذا عبده المصريون بعد (أبيس)، وقدسوه في الأعصر الحديثة تقديسا ليس فوقه عندهم من شيء إلا خشية الله. ففي الحقل وقوته وفي طرف منه قطعة سويت لا تزيد مساحتها عن بضعة أقدام مربعة فرشت بنبات الحلفاء هي مُصًلاَّه. فالحقل للفلاح عالم صغير مقدس يذود عنه بالروح ويبذل في سبيله الدم، لأنه ملجؤه الأخير وملاذه ومبتغاه
فلا عجب إذن في أن تنحصر الوطنية المصرية، وإنما نعني به وطنية السواد من أهل مصر، في حدود ذلك الحقل ولا تتعداه. وكيف تتعداه وقد آنست فيه الحياة آلاف السنين واستقرت في تربته الأجيال ثم الأجيال؟
وكما أننا عجزنا عن أن نكون أدباً مصرياً صحيحاً قوي الروح والأخيلة، بأن بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، فكذلك عجزنا عن أن نخرج، لهذا السبب عينه، وطنيتنا من حدود الحقل