ضعفها حتى أصبحنا اليوم وفي حياتنا السياسية عنصر جديد لم تعرفه مصر منذ عشرين قرناً من الأزمان. غير أنه مهما قيل في هذه الوطنية مظاهرها قاصرة على تصورات فئة قليلة العدد مقيسة بتبعية الذين يؤمنون بالوطنية مسبوكة في القالب الذي صوره الفلاح المصري ليكون حداً لوطنيته. وأن كلامنا إنما ينصب على وطنية هذا الفلاح دون غيرها
قد تعجب ويشتد بك العجب إذا أنا قررت هنا أن الفلاح المصري شديد الوطنية مغال فيها، بل متطرف في وطنيته أشد تطرف، ولكنك بجانب هذا تسأل أين الآثار التي تتجلى فيها هذه الوطنية، فأجيبك بأنها تظهر كل يوم على صفحات جرائدنا الأخبارية، وتشغل بها الحكومة في أكثر أيام السنة، ألا تقرأ كل يوم أن فلاحاً حز رقبة أخيه لأنه اعتدى على حقله فهد جزءا من حدوده؟ ألا تسمع أن أسرة شهرت السلاح في وجه أخرى لأن أحد أفرادهما أراد أن يأخذ نصيب آخر من الماء، وأن الموقعة انجلت عن قتيل وجرحى وأسرى هم رهن التحقيق؟ إذن فاعرف أن هذه هي الآثار التي تترتب على وطنية الفلاح المصري. أما الوطنية نفسها فتنطوي على حب الحقل والدفاع عنه بالمال وبالولد وبالروح،، ذلك بأن الفلاح الذي فقد حقوقه المدنية والسياسية طوال عصور قلما تعيها الذكريات، ونزل به من الفادحات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، لم يصبح عنده في الدنيا من شيء ذي قيمة إلاَّ ذلك الحقل بحدوده الأربعة، وإلاَّ ذلك النزر من الماء الذي يجود عليه بالرزق الحلال
أما السبب في أن تنضمر الوطنية المصرية حتى تصبح في نظر الفلاح الذي هو أهم عناصر مصر الحيوية، محوية في داخل هذه الحدود الضيقة، فراجع إلى أسباب تاريخية. فأنه منذ غزو الاسكندر المقدوني، ومن قبله بعشر سنين، أي منذ أن طرد الفرس آخر ملوك الفراعنة واسمه (نقطانيبو) لم يسد المصريون في بلادهم يوماً واحداً، وظل المصريون بين الحقول يزرعونها ليعولوا أنفسهم ويعولوا أسيادهم الذين يتسلطون عليهم من أية أمة كانوا وبأي دين دانوا، فلقد استطاع المصريون قبل الغزو الفارسي الأخير أن يستردوا حريتهم المرة بعد المرة، عقيب كل غزو دهمتهم به أمة أجنبية كالهكسوس وغيرهم، وأن يقيموا على عرش بلادهم أسراً من الفراعنة تحي تقاليد الحكم والثقافة واللغة، تلك التقاليد التي نشأت وربت في مدى عصور لا تعيها الذكريات. ولكن تلك