للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أما السبب في كل هذا فهو أننا بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، بل إننا قطعنا صلتنا بالماضي وهمنا في فلوات لا نعرف فيها طريقا يسلك، لا إلى الأمام لنصير أوربيين صرفاً، ولا إلى الوراء لنعود إلى مصريتنا مرة أخرى. وإذن فنحن في التيه، ولكنه التيه الذي سوف لا نخرج من ظلماته مادمنا غير قادرين على تقييم حقائق وجودنا تقييما صحيحاً، ومادمنا عاجزين عن أن ندرك تلك الحقيقة الأولية، حقيقة أن ثقافتنا التقليدية هي الملجأ الأخير الذي يوقظ فينا (الروح المصرية) التي من طريقها نكوّن الأدب المصري. الأدب المصري الذي ينبغي أن يكون من حيتنا الأدبية بمثابة الجهاز الهضمي في الحيوان، فيه تهضم الآداب الأخرى، ثم تتمثل أدباً جديداً ملائماً لآدابنا ومشاعرنا وأخيلتنا، وفي الوقت ذاته تطرد النفايات. تلك النفايات التي تسمم أدبنا الآن وتفسده، لأن أدبنا الجديد أضعف من أن يفرزها إلى خارج جسمه المتهدم الضئيل

هذا من حيث الأدب. أما الوطنية المصرية ووصفها بأنها وطنية ظاهرية، فلا يرجع إلى حب الأغراب، ولا إلى حب النقد بغير دليل يقام أو حجة مقبولة. لهذا نقسم الوطنية قسمين: قسما يمثله الشباب المتعلم وعلى رأسه الأحزاب، وقسما يمثله الفلاح الساذج

على أنه ينبغي لنا قبل الاستطراد في شرح مزايا القسمين أن نتعرف كيف نشأت الوطنية، ومن أي نبع تستمد تصوراتها. وما من شك في أن الوطنية المصرية إنما استمدت أولى خطواتها من آداب الثورة الفرنسية الكبرى فلبت نظام الحياة في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر. والدليل القاطع على هذا أنه منذ عصر عرابي إلى اليوم ترى أثر القسمين واضحاً جلياً في كل ما أدت الوطنية المصرية من الخدم الجسام لمستقبل مصر الحديثة. فالقسم الأول يأتم بالنظريات التي ذاعت في فرنسا في عصر ثورتها، وظل مؤتماً بها حتى بدء الحرب العظمى، والقسم الثاني ظل مستمسكا بتصوراته القديمة التي عكف عليها طوال العصور التي ظلت فيها مصر ميداناً لتطاحن الأمم والقيصريات

أما الفئة الأولى، وهي الفئة التي عكفت على النظريات الأوربية تستمد منها تصورات الوطنية، فكانت في كل الأدوار التاريخية منذ ستة عقود من الأزمان ذات الأثر الواضح في تكييف الظروف التي لابست كياننا السياسي. فهي التي بثت الروح الجديدة، وساقتها في طريق أجبر مقاوميها على أن يعدلوا من موقفهم إزاءها تدريجيا على مقتضى قوتها أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>