الحرس، وقامات الشرطة بملابسهم المفوفة، وأوسمتهم المزخرفة، ومن ورائهم جماهير الشعب المحتشدة على طواري الدرب الكبير متدافعة، وقد استطالت الأعناق إلى اجتلاء تلك الطلعة المباركة، وأنفاس المصلين تملأ الجامع القديم (أياصوفيا) بالدعوات الصالحات، والكلمات الطيبات والابتهال إليه تعالى، أن يمد في حياة خليفة المسلمين، وينصره على القوم الكافرين
ويصاقب تلك القصور إلى شط البحر، جنة لفّاء، روحاء زهراء، يخترقها درب عريض، قامت على جانبه أشجار فينانة، وارفة غيدانة، مبسوطة الأمليد، ملتفة العساليج، وقد عقدت فروعها من فوقها سماء من الأوراق، تزري بزرقة السماء، حجبت شمسها إلا خيوطاً منها، فكانت كما قالت بنت زياد في وصف واد:
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
تصد الشمس أنّى واجهَتنا ... فتتحجبها وتأذن للنسيم
وذكرت حين سرت هناك غريب اللسان، قول أبي الطيب في شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
سرت في ذلك الدرب الظليل، ونواسم البحر الندية تجوس خلال أدواحه، وتتقلب بين أزهاره وأوراقه، فعبق شذاها، وطاب رياها، تلامس الوجه، فيتفتح لها الصدر، وتخلص لها الروح، أفضى بي السير إلى مسالك تنشعب من ذلك الدرب، تكتنفها ملاعب وميادين، ودارات ورحب، فإذا أمعن السائر في السير بدا له البحر متسع الأفق، وتزاحمت الآستانة لناظريه متعالية على ضفاف البسفور، وقد احتضنت الماء، وعانقت السماء، فكانت فتنة العالم، وسحر الوجود. فإذا ما بلغ شط البحر، وقد شطت بخياله تلك الصور والذكر، لاح له ذلك التمثال الفخم، وسط رحبة من الأرض، لرجل (تركيا) اليوم، فيعود به هذا المشهد الحديث، إلى الحقيقة بعد خيال، والى الحاضر بعد غياب، والى الساعة التي هو فيها بعد استغراق طويل