الرضى الذي يغمر نفسي؟ ما هذا النعيم الذي يملأ شعوري؟ ذلك كله انعكاس حياة على حياة، وتدفق روح في روح، وتأثير ولد في والد!؟
ثم انقضت تلك السنون الأربع! فصوحت الواحة وأوحش القفر، وانطفأت الومضة وأغطش الليل، وتبدد الحلم وتجهم الواقع، وأخفق الطب ومات رجاء!!
يا جبار السموات والأرض رحُماك!! أفي مثل خفقة الوسنان تبدَّل الدنيا غير الدنيا، فيعود النعيم شقاء والملأ خلاء والأمل ذكرى؟! أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد، ويسكن البيت اللاعب، ويقبح الوجود الجميل؟! حنانيك يا لطيف! ما هذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومراق البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب؟ اللهم هذا القضاء فأين اللطف؟ وهذا البلاء فأين الصبر؟ وهذا العدل فأين الرحمة؟
إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول! فهل لبيان الدمع ترجمان، ولعويل الثاكل ألحان؟ إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية؟ وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري؟ إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده! أشهد لقد جزعت عليه جزعا لم يغن فيه عزاء ولا عظة! كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكبِره، وأستريح إلى النادبات يندبن الكبد الذي مات والأمل الذي فات والملك الذي رُفع!
لم يكن رجاء طفلا عاديا حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه؛ إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق! كان وهو في سنه التي تراها يعرف أوضاع الأدب، ويدرك أسرار الجمال، ويفهم شؤون الأسرة ويؤلف لي (الحواديت) كلما ضمني وإياه مجلس السمر! كان يجعل نفسه دائما بطل (الحدوتة) فهو يصرع الأسود التي هاجمت الناس من حديقة الحيوانات، ويدفع (العساكر) عن التلاميذ في أيام المظاهرات، ويجمع مساكين الحي في فناء الدار ليوزع عليهم ما صاده ببندقيته الصغيرة من مختلف الطير!
وا لهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحمام الراصد في وعكة قال الطبيب إنها (البرد)، ثم أعلن بعد ثلاثة أيام أنها (الدفتريا)! لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضة! ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة، تصارع العدم بحيوية الطفولة، وتحاجُّ القدر في حكمة الحياة والموت!!