العلماء ورثة الأنبياء؛ وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة. فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط
وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها - اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين بعد أن يكون حقق الذرائع إلى هذه الرسالة من فتح باب الاجتهاد وتنقية التاريخ الفقهي وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة، ثم استخراج أسرار القرآن الكريم المكتنَّة فيه لهذه العصور العلمية الأخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد، لا ينكره هذا ولا يغيره ذاك؛ وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه
أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوربا وأمريكا واليابان، بلغات الأوربيين والأمريكيين واليابانيين في ألسنة أزهرية مُرهفة مصقولة لها بيان الأدب ودقة العلم وإحاطة الفلسفة، وإلهام الشعر، وبصيرة الحكمة، وقدرة السياسة؛ ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسانٌ واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر؛ ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها فتكون المتكلمة عنه والحاملة لرسالته. وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوربا إلا أول تاريخ تلك الألسنة
إن الوسيلة التي نشرت الإسلام من قبل لم تكن أجنحة الملائكة ولا كانت قوة من جهنم؛ ولا تزال هي هي التي تنشره، فليس مستحيلا ولا متعذرا أن يغزو هذا الدين أوربا وأمريكا واليابان كما غزا العالم القديم. ولم يكن السلاح من قبل إلا طريقة لإيجاد الإسلام في الأمة الغريبة عنه حتى إذا وجد تولىَّ هو الدعوة لنفسه بقوة الناموس الطبيعي القائم على أن الأصلح هو الأبقى، وانحازت إليه الإنسانية لأنه قانون طبيعتها السليمة، ودين فطرتها القوية، وقد ظل الإسلام ينتشر ولم يحمله إلا التاجر كما ينتشر وحاملهُ الجيش؛ فليس علينا إلا تغيير السلاح في هذا العصر وجعله سلاحا من فلسفة الدين وأسرار حكمته. فهذا الدين