كما قلنا في بعض كلامنا أعمالٌ مفَّصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه مصلحة، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظّم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العمليَّ المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى. وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه لا يغني عنه في ذلك دين آخر ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدبٌ ولا علم ولا فلسفة كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور بازاء الشمس نبع النور في السماء
ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو يوجد ما يثبت، والثابت يوجد ما يدوم. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله: نضَّر الله امرءا سمع مني شيئاً فبلغه كما سمعه، فربَّ مُبلَّغ أوعى له من سامع
أما والله إن هذا المبلَّغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن عرفنا كيف نبلغ
أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينتشر الدين على يده في أوربا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به
هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين ويجب أن يتحقق بوسائلها من الآن؛ ومن وسائلها أن يُعالن بها لتكون موثقاً عليه. ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكرا إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة؛ فنكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم. وبهذه الألقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية ويحقق لنفسه المعنى الجامعي
وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أياماً في كل سنة يجمع فيها من المسلمين (قرش الإسلام) ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله. وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم