ولابد من وجود الروابط في الجمعيات البشرية، وتفرق الناس شيعاً وأحزاباً. نعم لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكانت هناك رابطة واحدة تربط الناس جميعاً، هي رابطة الإنسانية، ولكن ذلك المثل العالي لم يتحقق حتى الآن، وقد لا يتحقق إلى مدة طويلة، بل قد لا يتحقق أبداً، لذلك يجب أن نواجه الأمر الواقع، وأن ننظر على أي أساس يتميز الناس أمماً وشعوباً
ولنبدأ باستعراض التاريخ استعراضاً سريعاً، لنستخلص منه الروابط المتعاقبة التي ربطت الجمعيات البشرية في أوربا، منذ العصور الوسطى إلى الآن. إن المستعرض لتاريخ الغرب يستطيع أن يقرر أن الجمعيات البشرية قد تقاربت وتباعدت، على أسس اختلفت باختلاف مراحل التاريخ. ففي العصور الوسطى كان الأساس هو الدين، إذ تجمعت الشعوب الغربية وقامت وحدتها على الدين المسيحي، ثم أخذت رابطة الدين تنحل شيئاً فشيئاً، وأخذت تحل محلها رابطة الوطن، ومازالت أواصر الوطنية تتماسك، ثم تتوثق، حتى قوى التعصب لها، وحتى قامت الحروب ما بين الشعوب المختلفة في الوطن وإن اتحدت في الجنس، وبقى الأمر كذلك حتى مستهل القرن التاسع عشر، إذ قويت رابطة الوطن بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، ثم أخذت رابطة أخرى في الظهور، رابطة تقوم لا على فكرة الوطن ولا على فكرة الجنس، بل على فكرة الكفاح ما بين الطبقات، ووجوب سيادة طبقة العمال، وبهذه الرابطة نادى الاشتراكيون، وأخذ أمر الاشتراكية يقوى شيئاً فشيئاً، ومذاهبها تتنوع وتتشعب، حتى الحرب الكبرى، إذ استفحل شأن الاشتراكية بارتماء الروسيا في أحضان البلشفية.
على أن رابطة الوطن، وقد وقفت إلى جانبها رابطة أخرى مقاربة لها هي رابطة الجنس، لم يفتر نشاطها، بل نزلت إلى ميدان النضال. وهانحن اليوم نشهد عراكا عنيفاً ما بين رابطتي الوطن والجنس من جهة، ورابطة الطبقات من جهة أخرى
هذا بيان إجمالي عن الروابط التي تعاقبت على أوربا منذ العصور الوسطى إلى اليوم: من رابطة الدين، إلى رابطة الوطن، إلى رابطة الجنس، إلى رابطة الطبقات، ونحن نفصل الآن ما أجملناه