قلت إن الشعوب الأوربية كانت تجمعها في العصور الوسطى جامعة الدين، وكانت الدولة لا تقوم على القومية أو الوطنية في تلك العصور، بل كانت الدولة والقومية منفصلتين إحداهما عن الأخرى منذ العصور القديمة، فقد كانت اليونان قومية واحدة تتنازعها دول متعددة، وكانت الرومان قوميات متعددة تندمج في دولة واحدة. ولما جاءت العصور الوسطى تجمعت الشعوب الأوربية في ظل الدين المسيحي، يقود زمامها سلطتان: سلطة روحية هي سلطة البابا، وسلطة زمنية هي سلطة الإمبراطور. واستندت الكنيسة إلى السلطة الزمنية دهوراً طوالا، فإن المسيحية كان قد اشتد كاهلها في ظل الإمبراطورية الرومانية، إذ بعد أن ناوأتها هذه الإمبراطورية زمناً طويلا، واضطهدت معتنقيها، وسامتهم الخسف والعذاب، تغلبت قوة الإيمان، وانتصرت المسيحية، واتخذتها الإمبراطورية الشرقية ديناً رسمياً للدولة
ولما سقطت الإمبراطورية الرومانية شعرت الكنيسة بحاجتها إلى سلطة زمنية تستند إليها، وبقى المثل الأعلى للشعوب الغربية هو أن تتجمع في ظل الكنيسة. وقد تحققت هذه الأمنية إلى حد كبير في آخر القرن الثامن، وقام بتحقيقها شارلمان، فقد وحد غرب أوربا بعد أن أخضعها لسلطانه، وتوجه البابا ليو الثالث في سنة ٨٠٠ في كنيسة القديس بطرس، إمبراطورا على العالم المسيحي، وخليفة للقياصرة من الرومان، وأعاد الإمبراطور أوتو الجرماني وحدة العالم المسيحي مرة أخرى في القرن العاشر، أما الكنيسة نفسها فقد كان ظلها ينبسط على العالم المسيحي، يحقق وحدة هذا العالم، وقد كان لها أعوان منبثون في كل قطر وبلد، يؤيدون سلطانها، وينفذون إرادتها، وسلاح الكنيسة إذ ذاك هو الغفران والحرمان، تغفر لمن تشاء، وتحرم من تشاء، فكلمتها نافذة مطاعة، والعالم المسيحي ينظر إليها رمزاً لوحدته
وبقيت الرابطة الدينية قوية متينة دهوراً طوالا، ثم أخذت في الانحلال، ويرجع السبب في انحلالها إلى الحروب الطويلة التي نشبت ما بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وإلى اتصال العالم المسيحي بالعالم الإسلامي بعد انقضاء الحروب الصليبية، مما خفف من حدة التعصب الديني، وإلى الإصلاح الديني الذي كان من شأنه أن يشق العالم المسيحي إلى