كثلكة وبروتستانتية، وأخيراً، وبنوع خاص إلى عصر النهضة في العلوم والفلسفة، تلك النهضة التي افتتحت بها العصور الحديثة في أوربا، فبدد نور العلم ما كان قد تلبد من غياهب التعصب، وانقشعت ظلمات الجهالة، وميز الناس بين الروابط المدنية والروابط الدينية، فحكموا في الأولى عقولهم، وفي الأخرى ضمائرهم، وأعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
٢ - العصور الحديثة: رابطة الوطن ورابطة الجنس
وننتقل الآن من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وقد بدأت هذه العصور في أوربا منذ القرن السادس عشر، وبدأت معها رابطة الوطن تحل محل رابطة الدين، وقد كان يمنع من توثق رابطة الوطن في الماضي أمران:(الأمر الأول) رابطة الدين وقد رأينا كيف تفككت هذه الرابطة. (الأمر الثاني) شيوع النظام الإقطاعي في الشعوب الأوربية، وقد كان من شأن هذا النظام أن يفكك سلطان الدولة، وأن يوزعه بين النبلاء، فلم تكن تقوم للدولة ولا للقومية قائمة في ظل هذا النظام. ثم أخذ يزول شيئاً فشيئاً، ويرجع السبب في ذلك إلى تقدم التجارة والصناعة؛ مما جعل طبقة التجار والصناع وهي الطبقة الوسطى ذات شأن كبير. فأضعفت من سلطان الأرستقراطية والنبلاء، وحلت البرجوازية التجارية والصناعية محل الأرستقراطية النبيلة، واستندت إليها السلطة المركزية، واستعانت بها في توطيد سلطانها وهدم سلطان النبلاء
وغرس تقدم التجارة والصناعة عند الأمم الغربية حب الاستعمار سعياً وراء أسواق جديدة للتجارة، أو جرياً وراء الحصول على المواد الأولى للصناعة، وقويت نزعة الاستعمار عند الدول الغربية الكبرى، وتنافست، فقامت الحروب بينها، وزادت كل أمة شعوراً بقوميتها، وهكذا نرى أن الاستعمار كان من شأنه أن يقوي الوطنية، وأن يذكي نار التعصب للقومية
وقد بلغت رابطة الوطنية أوجها من القوة بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وبقيت قوية عنيفة طوال القرن التاسع عشر، رغماً عن حركة الرجعية التي رفع لواءها مؤتمر فينا. وأخذت القوميات التي لم تستكمل استقلالها تكافح في سبيل هذا الاستقلال، وخرجت منتصرة من هذا الكفاح. فاستقلت اليونان عن الدولة العثمانية، والبلجيك عن هولندا، وإيطاليا عن النمسا، وأخفقت بولونيا والمجر، ولم يقدر لهما النجاح إلا بعد الحرب