تتصل مصر بثقافتين من أمجد الثقافات التي خلفها النوع الإنساني: ثقافة العرب: ديناً ولغة؛ وثقافة المصريين: فناً وحياة؛ ولاشك في أن الثقافتين تمتزجان الآن في المصريين امتزاجاً عظيما، حتى ليتعين علينا أن نقول إن ما نعني بالثقافة التقليدية ينحصر فيما ينتج مزيج الثقافتين القديمتين من حالات تشعر بأن ماضينا مكون منها، وأن دمنا ملقح بها، وأن تصوراتنا وأخيلتنا ومشاعرنا وجماع ما فينا من صفات إنما تنعكس عنها وتنبعث منها. وكذلك إذا قلنا (المصرية) فإنا لا نعني بها شيئاً إلا مزيج تينك الثقافتين المجيدتين اللتين كونتا لنا على مرور العصور تراثاً قوياً نستند إليه، ودعامة مثلى لمجد ينتظرنا إذا نحن استوحيناهما واسترشدنا بوحيهما، واتخذناهما أساسا نقيم عليه لمستقبلنا، ولم نعزف عنهما شأننا الآن
وإذن يكون لنا من ثقافتنا التقليدية ناحيتان: الأولى ثقافة تزودنا بها اللغة العربية والدين الإسلامي؛ وهذه الناحية تكون أكثر ما فينا من نزعات الأدب والعلم؛ والثانية ثقافة تزودنا بها مصر لقديمة؛ وهذه بدورها تكون متجهنا الفني والمعاشي، ومنهما معا يتكون ذلك التراث الخالد الذي ندعوه ثقافة المصرين التقليدية
ولن يكون هذا البحث كاملا إلا إذا عرفنا قيمة اتصالنا بهذه الثقافة ومقدار ما نحتاج إليها في تكوين نهضتنا الحديثة تكوينا نضمن معه الثمرة العملية التي ترجى من جيل جديد قادر على الكفاح في الحياة، والعمل المنتج الذي يعيننا على إقرار الحالات الاجتماعية على أساس ثابت، وآمل أن أكون قد أفلحت بعض الشيء في تصوير ذلك في سياق هذا البحث
لا ريبة في أن التعليم العام هو الأداة التي تمهد لنا سبيل الاتصال بثقافتنا، ولقد وضح لنا حتى الآن أن السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا قد أضعفت من وسائل هذه الأداة أضعافا ظهر أثره جليا في كل مرافقنا، بل وفي كل نواحي حياتنا عقلية ومادية
عمد الأوربيون منذ عصر النهضة الأدبية الحديثة إلى الاتصال بثقافتين أوربيتين كانتا العماد الأول والسنادة العظمى في تلك النهضة. عمدوا إلى ثقافة اليونان وثقافة الرومان، حتى لقد غالوا في ذلك باتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية في العلم وفي الأدب وفي الفن، فأحيوا بذلك ثقافتين لم يكن لهم مناص من إحيائهما لتكونا الوصلة بينهم وبين ماض صبغ ثقافته حوض البحر المتوسط قروناً بصبغة خاصة ولون خاص؛ ولا تزال جامعات أوربا