للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حتى اليوم تعنى العناية كلها بتلقيح عقول الناشئين بتراث الثقافتين معاً، بل وتجعل درس اللغتين اليونانية واللاتينية أصلا من أصول التثقيف العالي، فلم كان ذلك؟ ولأي من الأسباب الحيوية التي شعر بها الأوربيون في بدء نهضتهم ترجع هذه الظاهرة؟ إنها ترجع كما قلنا إلى أن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يجب أن يضل ثابتا في بناء الأمم الأدبي والاجتماعي، ليكون ملقحا للآراء والنظريات وضروب الثقافات الدخيلة، احتفاظا بالطابع الأصيل في الأمة، ذلك الطابع الذي هو جزء من كيانها وقطعة من وجودها، وليكون في الوقت ذاته العدة في تمثيل ما يتصل بثقافة الأمة من الثقافات المنتحلة غير الأصيلة، وتكييفها تكييفا يتفق ونزعاتها ومشاعرها وأخيلتها، وعلى الجملة يتفق وثقافتها التقليدية. فهل اتبعنا في نهضتنا هذا السبيل القويم؟ وهل كفل لنا التعليم الوصول إلى هذه الغايات العليا؟

كلاَّ. لم يكفل لنا التعليم شيئاً من هذا. وأقصد به التعليم بناحيته: الناحية التي تمثل وراثتنا عن العرب لغة وديناً، وأعني بها الأزهر، فإنه لم يلقح بشيء من الثقافات الحديثة التي يجب أن يلقح بها لتكون له بمثابة الدم الجديد يجري في العروق القديمة. وكذلك لم تعن الناحية التي تمثل ثقافتنا الدخيلة: أي الثقافة الأوربية وأعني بها ناحية التعليم الزمني، بأن تكوّن فينا تلك الفطرة التي تصلنا بثقافتنا التقليدية لتكون معملا حديثاً يتحلل فيه ما يصلنا عن أوربا، ويخرج منها مصبوغاً بصبغة مصرية أصيلة. ومثل الأزهر في ذلك كمثل كائن حي هَضمَ ولم يأكل، ومثل التعليم الزمني كمثل كائن حي أكل ولم يهضم. فناحية جائعة وناحية متخومة

لقد ظل اتصال الأزهر بذلك الجزء الذي يمثله من ثقافتنا التقليدية غير مكيف بمقتضيات العصور والحالات التي قامت خلالها وهو أقل تكيفاً بمقتضيات هذا العصر منه بمقتضيات كل عصر مضى. أما إذا كانت كلمة الثقافة تدل على تكييف الذهن تكييفاً تاريخياً أول شيء - ونقصد بالتكييف التاريخي خلق تصورات جديدة من تاريخ الأمم القديمة - فما من شك إذن في أن الأزهر لم يتصل بالثقافة التقليدية من ناحيتها التي تخلق هذا التصور، وإنما اتصل بناحية من الثقافة التقليدية صدت التصوّرات عن الابتعاث في سبيل الابتكار. وكذلك ظل تعليمنا الزمني بعيداً عن الاتصال بثقافتنا التقليدية من جميع نواحيها تقريباً. ومن هنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>