والأمر السابق الذكر وهو أن الشروط والوثائق تقوم في تطبيق الشريعة العملي بدور أهم بكثير مما يعينه لها علم الفقه - ذلك الأمر لا نفهمه إلا ببقاء عادة ثابتة قديمة تقتضي تحرير العقود بالكتابة؛ ومن الراجح أن تلك العادة الموجودة في القانون العرفي العربي الجاهلي كانت تأثرت بنفوذ التمدن العراقي، فإن العراق مشهور بالدور الهام الذي قامت به الوثائق المكتوبة في حياته القانونية والأدبية منذ زمن قديم جداً. أما الوثائق التي تبينها وتوضحها كتب الشروط، وكذلك الوثائق الأصلية التي احتفظ بها فهي تتفق بطبيعة الحال في مضمونها المادي مع أحكام الشريعة الإسلامية بحسب الظروف والإمكان، وخصائصها البارزة لا تظهر إلا في صيغتها التي تغيرت تغيراً كبيراً على كر القرون، لكنها كانت دائماً خاضعة لقواعد فنية صارمة. وإليكم خاصة جديرة بالذكر تشترك فيها كتب الشروط القديمة بأجمعها: قد تلونا آنفاً آية قرآنية تنص على أن (الذي عليه الحق) يكتب ويمل؛ وأما في كتب الشروط القديمة فالقاعدة الأساسية هي يملي الكتاب المدين (أو من يقوم مقامه من المتعاقدين) على المديون (أو القائم مقامه) وأن يقرّ هذا بصحة الوثيقة ويُشهد على ذلك الشاهدين
وثمة مصدر ثالث لدراسة القانون العرفي، وهو التشريع المدني الدنيوي في بلاد الإسلام. ومن الحق أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بتشريع مستقل يقوم إلى جانبها، وتلك التشريعات المدنية حتى في أوائل العصور الحديثة لم تزعم أكثر من أن تكون ملحقات بالشريعة في الدائرة التي سمحت لها بها؛ والواقع أن تلك التشريعات كثيراً ما جاوزت هذه الحدود. وأشهر مثال لمثل تلك التشريعات هو ما يسمى (بالقانوننامجات العثمانية)، فإنه بينا كانت أكثرها تتصل بمسائل إدارية، قد ردتها الشريعة إلى اختصاص الدولة، فإن أول قانون من هذه القوانين وهو (قانوننامه) السلطان محمد الفاتح بنظم العقوبات أيضاً والأحكام الشرعية في الواقع لم تنفذ في تلك المنطقة أحياناً كثيرة، وتفترض هذه القانوننامه أن القصاص يمكن إجراؤه بخلاف الحدود، وقد وضعت بدلا منها قانوناً جنائياً كاملا يختلف أصلا عن أحكام الشريعة، وإن كان يذكرها في مواضع عديدة ويستعير منها بعض القواعد الأساسية؛ ويمتاز هذا القانون الجنائي بالدور الهام الذي تؤديه الغرامات المالية المختلفة المبالغ تبعاً لثروة المذنب. حتى الزاني بشرط أن يثبت عليه البينة وفاقاً لقواعد الشريعة