ينظر الى القبر باكيا فيطير به الفكر في أرجاء العالم، ويصعد به الى الله ثم يطوي فكره شيئا فشيئا ويهبط به الى القبر ليطير عنه الى السماوات كرة أخرى. وهو في ثورته واستسلامه يذكر القارئ بقصيدة فكتور هوجو. التي رثى بها ابنته.
ثارت ثائرة بعض النقاد على حامد (ومقبره) حينما نشره إذ رأوا فيه لغة غير مفهومة، فكان في جلال الحزن وشدة الألم أسمى من أن يبالي المدح أو الذم. وما كتب الشاعر كتابه ليكون بديعة أدبية. بل أراد، كما يقول: أن يبني بالشعر قبر الحبيبة، لا يكترث بالناس حين يبنيه؛ ولا يبالي بما يقولون فيه.
وقبل أن أعرض على القارئ نموذجا من (المقبر) أترجم مقدمته المنثورة التي يراها بعض الأدباء عهدا جديدا في النثر، كما يعدون الكتاب عصراً جديداً في الشعر. قال:
(المقبر): وهو آخر ما كتبت، كتب لتخليد وجود أصابه الفناء. وأنا أعلم أنه ليس في (المقبر) أثر من المعاني الشعرية التي تنطوي عليها المقابر. وإنما (المقبر) صيحة حسرة منبعثة من العدم، فلن يظفر قارئه بشيء، ولكنه عندي شيء. أجل أن الفكر حين يجوس خلال الكتاب ليطوِّف في مقبرة ثم يخرج منه كما يخرج من المقابر؛ لا يفقه شيئا. . .
قراءة فاتحة هذا الكتاب كاستيعابه كله، والإحاطة بما فيه كالتفكير في اسمه. لقد كتب هذا الكتاب في مقبرة، فهو وحي من الألم لمن يعرفون الكاتب السيئ الحظ، ووحي من الكلال لمن لا يعرفونه.
من يسألني: لماذا تنشر على الناس آلامك في هذه الصورة وكان يسعك أن تكتمها في قلبك، أو تكتبها ولا تنشرها؟ فذلك جوابي له: لا يبقى من هذه الأجساد المتهافتة في وادي الصمت إلا أحفان من التراب، وكذلك لا يبقى في القلب من أحب الذكريات إلا خيال دارس، ولست أقنع بهذا الخيال.
وأما نظم الكتاب وحفظه بين أوراقي فمصيره أن يبلى كما تبلى الأعضاء الميتة والأفكار اليائسة ولست أرضى بهذا البلى.
هل يضمن نشر الكتاب خلودها كما رجوت؟ لا، ولكن مهما يكن من شيء فـ (المقبر) أطول مني عمراً. ومن أجل ذلك نشرته، إنه قبر مبني من الصيحات التي في قلبي؛ أود أن تكون كلماته كالكلمات التي نقشت على الأحجار. هيهات. . .! كل صيحة في هذا (المقبر)