للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قبر منفصل ولكن فيها كلها دفيناً واحداً، هو الإنسانية التي تجلت لي في الوجه الذي أحببته. كتبت هذا الكتاب لأقرأه وحدي، فقليل من يشاركني إحساسي. بل لا أود أن يشاركني أحد في هذا الإحساس خشية أن لا تكون هذه المشاركة إلا بالتجريب. أريد أن أبكي وحدي على المسكينة التي بكيتها، وهذه الوحدة عندي سلوان لأنها أكبر العذاب.

ألا يرى القارئ أن هذه المقدمة كذلك تشبه كتابا كتب لي وحدي. وبعد، فليست العبارة المكررة في (المقبر) إلا كلمة واحدة، وليست هذه الكلمة إلا قبرا: كما تنتهي الأصوات كلها الى النفس الأخير.

لا أرتاب أن (المقبر) كآثاري الأخرى سيفنى، بل أعرف أن الأبدية كلها لا تفي بحفظ آلامي على حالها، وسيصعد الكتاب الى حضرة الخالق ودماء هذا الجرح سيالة من قلبه.

من القلوب مالا يجتمع فيه السرور والآلام، ومن القلوب مالا يزول حزنه بما يصيب في الدنيا من سعادة وجد، ولكن هذا الحزن لا يحول دون السرور، وفي بعض القلوب يخيم السرور والحزن معا، ومن أجل ذلك تلوح السلوة في الحزن أحيانا، ويبين الألم في الابتسام.

ومن القلوب ما يزيد الفرح أحزانها. ومن هذه الآلام آلامي. أود أن أطرب ليزيد حزني، ولست بمستطيع أن أفهم الناس ذلك، فلغة هذا الإحساس تكبر على الأفهام. فلأصمت!

إن القارئ الذي يريد أن يعد (المقبر) شعراً لأنه من آثاري لن يجد فيه من شاعريتي أثراً. ولكنه إذا فكر يسمع صرخات يستطيع أن يحسبها شعراً، وما هذه الصرخات إلا عجز البشر.

أعظم الشعر وأجمله وأصدقه أن يعيا الإنسان بالبيان فيصمت حين تنوء به إحدى الحقائق الهائلة. ولكن (المقبر) يخطب ولا يصمت. يعجز الإنسان أحيانا أن يعرف خيالا لا خطر له لما يبهره من جماله، ويقصر أحيانا عن إدراك الفكر الطائر عن عقله لما يفوته من علائه. ويعيا أحيانا بفهم الإحساس المولود من قلبه لما يهوله من عمقه. وفي هذا العجز يرسل صيحاته، أو يشدو بما لا يفهم من كلماته. أو يصمت فلا يترجم عن حسراته، فيأخذ قلبه فيطؤه بقدمه فيحطمه. وهذا كله شعر.

(المقبر) يتضمن إحساسا ولده قلبي. ولكنه في بعض نواحيه غريب كل الغرابة عما يروي

<<  <  ج:
ص:  >  >>