وكان ستيفانو - والد بيراندللو - قد وصل من صقلية، بعد أن صمد دهرا في وجه المصائب، فمن موت زوجه، إلى إفلاس تجارته وضياع ثروته، إلى غير ذلك من الآلام والمتاعب التي انتهت بفقد بصره
ولما كان بيراندللو مشغولا في خلال هذه الفترة بمصير ولديه اللذين ذهبا إلى الحرب، ومضطراً إلى أن يقضي يومه بين زوجة مأفونة، ووالد عاجز ضرير، وابنة وصمته بميسم العار، كان لابد من أن تخرج هذه الأشباح المعذبة التي تسكن ذهنه، وأن يقدمها للناس في ثوب درامي عنيف يجمع بين روح الواقع وبين الخيال
وهكذا غصت المقاعد في مسرح سكالا بميلانو ليشهد الجمهور مسرحية بيراندللو الجديدة (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف ' التي ابتدع فيها فنا جديدا وعالما يموج بالصور والأشباح والشخصيات المجزأة
والواقع أن فترة المتاعب والآلام التي اجتازها هذا المؤلف الثائر في كافة أطوار حياته هي التي دفعته إلى أن يقول بلسان إحدى بطلاته: (ليست الأعمال إلا حقائب خاوية تملؤها أذهاننا)
وهي التي أدت به إلى أن يكره العقل، لا لأن العقل سجن، بل لأنه صدفة فارغة لا تملؤها سوى الغريزة العمياء. فالحوادث مثلها مثل الأكياس لا يمكنها الوقوف وهي فارغة. كذلك إذا أريد أن يظل الحادث حياً في الذاكرة، منتصباً بين ظلال الوعي وجب أن يكون له معنى واضح وأن تستقصي الأسباب والبواعث التي أدت إليه
حتى نظريات بيراندللو ليست سوى إنذار بهدم المنطق وإفلاس العقل وتفوق الخيال على الحقيقة. وعنده أن للأرواح لغة خاصة تتفاهم بها ووسائل تدفعها من وقت لآخر للقيام بأعمال باهرة على حين أن الشخصيات المادية لا تتجاوز في علاقاتها غير الحديث العادي
ومما يحملنا على الاعتقاد بأن نظريات بيراندللو البيسكولوجية لا تصل به إلى تفسير الناس، أنه يلجأ شخصياً إلى هؤلاء الناس لتفسير ألغازه، ولولا روح المرح والفكاهة التي تخلع على مؤلفاته ظلاً هائماً ومسحة خاصة لتباعد بينها وبين مركز الألم لكان فنه الروائي هو الجحيم والإنسانية المعذبة
لقد درس كل من إدجار ألن بو وستيفنسن نظرية ازدواج الشخصية وفوضاها في الإنسان.