هذا الرجل الحزين يقبل رأسه ويديه ورجليه باكياً مستعبراً، مندفعاً في حديث لا يكاد ينقضي، مظهراً من التكرمة والإجلال لهذا الرجل ما لم يتعود أن يظهر لأحد من سيديه. فيقول أحد القرشيين: ويحك لقد أفسد علينا ابن عمنا هذا العبد! وما أرى إلا أن ثقيفاً معذرين إن خافوا منه على عبيدهم وضعفائهم وأقويائهم أيضاً ما خفنا نحن منه على العبيد والضعفاء والأقوياء؛ وهذا الرجل قد نهض وقوراً هادئاً، ومضى أمامه وقوراً هادئاً، ومضى العبد معه شيئاً من الطريق. ثم وقف يشيعه بطرفه حتى غاب عن طرفه وعن طرف القرشيين
هنالك عاد العبد إلى سيديه، وفي وجهه آيات الكآبة والحزن، وفي وجهه مع ذلك آيات الطمأنينة والرضى، ودموع تجري من عينيه لم يدريا أكانت دموع حزن وابتئاس، أم كانت دموع غبطة وابتهاج
يقول عتبة بن ربيعة للعبد رفيقاً به عطوفاً عليه: ويحك يا عداس! إن لك من هذا الرجل لشأناً، فاقصص علينا بدء حديثك فقد رأيناك حفياً به متلطفاً له، مكباً عليه تقبله باكياً مواسياً، ثم مرافقاً له تشيعه بشخصك ثم بطرفك. قال العبد: نعم يا مولاي إن لي مع هذا الرجل لشأناً وحديثاً عجيباً، وأحبب إلي أن أقص عليكما حديثي! ولكن أي حديثي تريدان؟ أتريدان حديثي منذ اليوم، أم تريدان حديثي القديم الذي مضت عليه أعوام طوال، والذي دفعني إلى بلادكم هذه، والذي اضطرني إلى ما أنا فيه من رق، أعمل لكما بيدي في هذا البستان، وما عملت لأحد قبلكما بيدي، وما عملت لنفسي بيدي، وإن كان الناس ليعملون لي كما أعمل لكما الآن؟ قال عتبة وقد ثارت في نفسه طبيعة العربي الذي أترف وفيه فضل من بداوة، فهو مشغوف بالقصص، كلف بغريب الحديث. قال عتبة: وإن لك لحديثاً قديماً بينه وبين حديثك هذا الجديد سبباً. قال عداس: نعم. قال عتبة: فاقصص علينا حديثك. وأخذ القرشيان مجلسهما استعداداً لسماع الحديث. وهم العبد أن يبدأ حديثه قائماً، ولكنهما أذنا له في الجلوس فجلس وأطرق وأغرق في صمت غير طويل، ولكنه كان عميقاً. ثم قال: لقد انتهيت إلى هذا الرجل منذ حين فسمعته يقول كلاماً ما أعرف أن الناس يقولونه أو يقولون مثله في هذه الأرض. فلما سألته عن ذلك حدثني بحديث ما يعرفه إلا نبي. وكأن حديثه هذا مني على ميعاد، أو كنت أنا من حديثه هذا على ميعاد. لقد سألني سؤالاً لم