يسألنه أحد منذ وطئت هذه البلاد. سألني عن موطني الذي نزحت منه، فأنبأته بما لا تعلمان وبم يحسن أن تعلماه الآن، وهو أني رجل من أهل نينوى، نشأت في بيت من بيوت الأحرار الذين إن لم يتح لهم الملك والإمارة، فقد أتيحت لهم الثروة والغنى؛ وكنت موفور الحظ من النعمة وحسن الحال، فارغاً لما يفرغ له أمثالي في تلك البلاد من تقسيم الوقت بين لذة الجسم ولذة العقل؛ ألهو ما وسعني اللهو، ثم أقرأ وأختلف إلى مجالس العلماء والفلاسفة من القسس والرهبان فأسمع منهم وأتحدث إليهم، وآخذ معهم في ألوان من الجدل حول ما يختلف الناس فيه عندنا من أصول الدين والعلم، وأنتما لا تعلمان من أمرنا في تلك البلاد إلا قليلاً، إنما تعنيان ويعنى قومكما بما تحملون إلينا من تجارة، وما تصدرون به عنا من مال، وما تصيبون في بلادنا من هذه اللذات اليسيرة. فأما ما دون ذلك فليس لكم به علم، وليس لكم عنه سؤال؛ ولو قد دخلتم في حياتنا وعرفتم دقائق أمرنا، لرأيتم أن في نفوسنا اضطراباً شديداً، وغلياناً متصلاً، وضيقاً بالسلطان، وتمرداً على النظام، وإنكاراً لما ورثنا من عادة، وشكا فيما تلقينا من دين. ساءت فينا سيرة السلطان فنقمنا من نظام الحكم، وساءت فينا سيرة القسس فشككنا في الدين؛ فأما العاجزون فقد أعطوا طاعة ظاهرة وأضمروا عصياناً خفياً، وعكفوا على اللذات يستعينون بها على احتمال الحياة؛ وأما الأقوياء وأولو العزم فقد فكروا وقدروا وجدوا في التفكير والتقدير يلتمسون فرجاً من حرج ومخرجاً من ضيق، وكنت فيما رأيت من هؤلاء. فلما ضقت بالحياة في مدينتي ولم أجد عند علمائها وقسسها شيئاً خرجت مسافراً إلى الشام ألتمس في السياحة تسلية وعلماً، وأبتغي فيها ظفراً بالخير، ولست أقص عليكما رحلتي إلى الشام ومنازلي في طريقي إليها، واضطرابي في مدنها وقراها، ويأسي من قسسها وعلمائها، وضيقي بسادتها وحكامها، ولكني انتهيت بعد كثير من الاضطراب إلى دير من الأديرة يقوم في آخر العمران وأول الصحراء مما يلي بلادكم هذه، وأقمت في هذا الدير دهراً راضياً عن حياته الهادئة المطمئنة راضياً عن حياة أهله الآمنين الوادعين الأخيار، ناعم النفس بعشرتهم مستمتعاً بأحاديثهم، ولكنني سمعت من أحاديثهم عجباً: رأيت لهم فيما بينهم أمراً يتحدثون عنه بالرمز، ويومئون إليه بالإشارة، ورأيت حديثهم هذا الرمزي يكثر ويشتد إمعانهم فيه كلما مرت بديرهم من قوافلكم هذه التي تردد على بلاد الروم. رأيتهم يعرفون أنباء هذه القوافل