للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فوجود الخالق الجبار المنتقم الرحمن اللطيف لاشك فيه عنه القلب؛ أما العقل فإن استطاع بالمنطق أن يتصور وجود الخالق، فأنه قد يرتاب في صحة تلك الصفات المنسوبة إليه؛ وقد يراها في منطقة صفات آدمية أسبغها البشر على خالقهم إجلالاً له، لأنهم وهم بشر لا يملكون غير تلك الصفات التي هي في عرفهم مرادف الإكبار والتقدير. أما حقيقة الخالق فأمر بعيد عن مقدرة العقل، وهل يستطيع الجزء أن يرى الكل؟ هل تستطيع الكبد في جسم الإنسان مثلاً أن تحيط إدراكاً بحقيقة شكل الإنسان الخارجي وهي جزء منه داخل فيه؟ إن كل ما تدركه الكبد هو وجود تلك المواد التي تمر بها كل يوم فتحولها إلى إفرازات دون أن تدري من أين جاءت، ولا إلى أين تذهب. العقل أيضاً يرى الأحياء كل يوم تدور دورتها دون أن يدري من أين جاءت ولا إلى أين تذهب. فالحقيقة العقلية أو العلمية لا يتجاوز علمها الكائنات التي تمر بالحواس؛ ومن يحمل العقل أكثر من قدرته فهو إنما يريد منه المستحيل، كمن يطلب إلى الكبد مضغ الطعام. فالحقيقة العقلية أو العلمية شيء، والحقيقة الاحساسية أو الدينية شيء آخر؛ وإن رجال الدين يقعون دائماً في الخطأ، إذ يبسمون بسمة الظفر كلما قال رجال العلم قولاً يتفق مع الدين، ويقطبون تقطيب الغضب كلما نقض رجال العلم أسس الدين. وما أحراهم في كلتا الحالين أن يبسموا غير مكترثين بسمة الصفاء واليقين، وأن يعتقدوا تمام الاعتقاد أن العلم في كلا الحالين كاذب عندهم وإن صدق، وأن لا شأن للعلم بهم، وأن الحقيقة الدينية بعيدة عن وسائل العلم ودائرة بحثه، وأن العقل يستطيع أن يهدم الدين كما يشاء دون أن يسمع القلب طرقة واحدة من طرقات معوله، وأن أولئك الملحدين الذين سخروا عقولهم الكبيرة لتفنيد الدين وهدم أصوله والشك والتشكيك في جوهره ووجوده، لم يستطيعوا لحظة واحدة أن يسكتوا صرخات القلب الحارة الصاعدة إلى ذلك الموجود الأسمى الذي بيده نفوسهم. إن عقولهم كانت ترغى وتزبد بالكلام المعقول والمنقول، وقلوبهم في معزل عن كل هذا الصخب، لا تشعر ولا تدري شيئاً عن المعركة الحامية القائمة في تلك الرؤوس. فالتوفيق بين العلم والدين ضرب من العبث. على أن اجتهاد المجتهدين في هذا السبيل لم يتعدى ذلك الجانب من الدين الخاضع بطبيعته لحكم العقل، وهو الجانب الاجتماعي المبني على الأخلاق وما يتفرع عنه من فكرة الفضيلة والرذيلة. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>