يلائمها، وتعوق التفكير الصحيح لأنه ليس من طبيعتها، وتعوق التقدم الاجتماعي لأنه أساس إطلاق الفكر من قيوده، والفكر مشلول بعبادة الأصنام
ومن أجل هذا كان أهم ما أتت به سلسلة الأنبياء محاربة هذه العقيدة، وتخليص الفكر من قيوده التي قيدته بها العقيدة في الحجر والشجر، والنجوم والبحار والأنهار؛ وكان نجاحهم في أول الأمر قليلا قليلا، لأنه لم يكن يقوى على احتمال تجريد الإله عن المادة إلا القليل من الناس، وحتى في العصور الحديثة لا تزال النزعة إلى مادية الإله تتسرب في أشكال مختلفة، مع رقي العقل البشري ونموه ونضوجه
وقد بدأت هذه الدعوة إلى التجديد في الأمم السامية من عهد إبراهيم، واستمرت بين الظهور والخفاء، وكلما تقدم الناس كانوا أكثر لها استعدادا وأقرب قبولا، حتى أتى محمد (ص) فدعا دعوته الجريئة الصريحة إلى كسر الأصنام وتحطيم الأوثان وتخليص العقيدة من كل شرك، وتجريد الله من كل مادية؛ وكان شعار عقيدته (لا إله إلا الله)، ومدار عقيدته (ليس كمثله شيء)؛ فالأصنام ليست تصلح لشيء إلا للمعاول، والنجوم هو الذي خلقها ونظم حركاتها، والبحار والأنهار هو الذي خلقها وأجرى ماءها، والملائكة هو الذي خلقهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، لا شيء يشاركه في ألوهيته من مادة أو روح - هو حقيقة واضحة معقولة في شكل - غيبت عن العقول حقيقته، وظهرت لهم صفاته، فهو الخالق لكل هذه الظواهر، وهو الذي يسيرها، وهو غرضها الأسمى؛ هو وحدة لا تعدد بأي حال - تنزه عن المادة وتنزه عن الشريك
سلك القرآن في الدعوة إلى الإيمان مسلكا خاصا، فبعد أن أبان للإنسان أن الله خالق كل شيء، وأنه رب العالمين، طلب إليه أن ينظر إلى كل شيء في العالم من صغير وكبير، فسيرى فيه مظهراً من مظاهر الألوهية، ودليلا على عظمة الله وقدرته لم ينهج القرآن منهج الفلاسفة في دوران العقل حول نفسه ليستخرج منها نظريات مجردة، ومقدمات ونتائج منطقية، إنما طلب أن تمتزج النفس بالعالم، وأن ينفذ العقل إلى رب العالم عن طريق العالم، لأن هذه الطريقة أكثر إحياء للشعور، ومبعثاً لحياة القلوب؛ والإيمان ليس يعتمد على العقل وحده، بل هو يعتمد على القلب أكثر من اعتماده على العقل. من أجل هذا طلب القرآن النظر إلى كل شيء في العالم من الذباب والنحل والعنكبوت، إلى الفيل