النار وهكذا، حتى يطبخ الأرز ويغرف في الصحون، ثم نحف به - أعني الأرز - ونقبل عليه فنلتهمه
وكان لنا خيراً من الأب، وأخلص من الصديق وأوفى، وكان ربما رأى أحدنا ساهما أو واجماً، فيسأله عن سبب ما يبدو عليه، فيفتح له صدره، ويبثه ما فيه، ويقول له بشجوه، حباً كان ذلك أو هما، أو غير ذلك؛ فيشير عليه بالرأي الناضج، ويخلص له النصح، ويقوي ضعفه ويشجعه، ولا يزال به حتى تعود إليه البشاشة
وقال لنا يوماً:(خذوا) وناولنا بطاقات فيها دعوة إلى ما كان يسمى (زفة الحسين)، وما هي بزفة، وإنما هي مأتم، ولكنها هكذا كانت تدعى على ألسنة العامة، فذهبنا في الموعد المضروب إلى بيت رحيب في زقاق ضيقن فوجدنا هناك كثيرين من رجال مصر المعروفين، أجلسنا معهم، ثم دعينا إلى مائدة مثقلة بألوان الآكال الشهية، وكان الأستاذ البرقوقي إلى جانبي، فظمئ على الطعام، وأسر إلي بذلك - لا أدري لماذا - فأومأت إلى الخادم، فناوله كوباً رفعه إلى فمه، وما كاد يفعل حتى رده عنه، وقال:(بفففف!)، ذلك أنه كان سكراً مذاباً لا ماء، فعجبنا واتقينا أن نشرب
وانحدرنا إلى صحن الدار، وكان فيها منبر، ارتقى إليه شيخ فارسي، وانطلق يقول كلاماً لم نفهمه، ولكن صوته كان يتهدج وكانت الدموع تتسايل على خديه، وتبل لحيته الكثة، وقيل لنا إنه يرثي الحسين ويندب مصرعه، وكان الذين يفهمون كلامه من بني جنسه يبكون، بل ويعولون، ومنهم من كانت تهيج حرقاته فيلطم، أو يضرب صدره أو ظهره العاري بسلسلة غليظة من الحديد، أو يضرب جبينه ببطن سيف مسلول، أو بكله - أي قفاه الذي ليس بحاد - ولكن أحدهم اضطرب وهو يفعل ذلك فأصاب حد السيف جبينه فانفجر الدم كأنه من نافورة، وقد خفوا إليه، وضمدوا جرحه، وعصبوا له رأسه؛ وهال أحدنا منظر الدم، وظن أن الرجل لا محالة هالك، فأغمي عليه، وسقط على الأرض كما تسقط الخشبة، فأنشقوه شيئاً في زجاجة أنعشه ورد إليه روحه
ولا أحتاج أن أقول شيئاً في وصف الموكب الذي يخرجون به ويطوفون بالشوارع وهم يدقون صدورهم العارية أو يضربونها بالسلاسل، أو يخبطون وجوههم أو عواتقهم ببطون السيوف، فإن ذلك كله معروف مألوف، وإن كان قد انقطع، والأكثر من الناس قد رآه في