والحياء، كل ذلك كان يمنعها أن تكون هي التي تخطو في الأمر الخطوة الأولى وتقول فيه الكلمة الأولى. لقد كان الموقف دقيقا كل الدقة، حرجا كل الحرج. فلتسر في الأمر بحذر واحتياط محافظة على نسبها وحسبها، وتوفيرا لخفرها وقنية لحيائها
إنها كانت تستأجر الرجال في الاتجار لها بمالها وتساهمهم بنصيب مسمى من الربح، فلم لا تستأجر محمداً وتضاعف له الجعل الذي كانت تجعله لغيره؟ وأنشأت من فورها تجيب عن هذا السؤال؛ فوسطت إلى محمد من عرض عليه رغباتها. فقبل محمد ما عرض عليه، وسافر إلى الشام في صيف عام ٥٩٤ متجراً في مال السيدة، وسافر معه ميسرة غلام خديجة ليرقبه عن كثب وينهي إلى السيدة عند عودته جملة حاله في السفر، فتلم بجملة حاله في السفر والحضر. وباع محمد، واشترى، ولقي الرهبان ببادية الشام، وتحدث إليهم، وتحدثوا إليه، ثم عاد وقد ربحت التجارة ربحاً وفيراً، وقص ميسرة على السيدة ما رأى من محمد في السفر من رقة الشمائل، وسهولة الخلق، وصدق المعاملة؛ فعلمت السيدة عند ذلك أن قلبها لم يكذبها؛ فقطعت تردد؛ وأجمعت أن تخطو هي الخطوة الأولى وتقول هي الكلمة الأولى. وكانت لها صديقة تثق بها اسمها نفيسة بنت منبه، فدستها إلى محمد لتلوح له بالأمر وتعلم رأيه فيه:
نفيسة - يا محمد! ما يمنعك أن تزوج؟
محمد - ما بيدي ما أتزوج به!
نفيسة - فإن كفيت ودعيت إلى الجمال، والمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟
محمد - فمن هي؟
نفيسة - خديجة!
محمد - وكيف لي بذلك؟
نفيسة - علي!
محمد - فأنا أفعل!
لاشك أن محمداً لم يقل مقالته الأخيرة إلا بعد أن أصبح يشعر نحو السيدة خديجة بمثل شعورها نحوه، وبعد أن أصبح يبادلها عطفا بعطف، وتقديراً بتقدير. نعم أنها أسن منه، ولكن ذلك ليس شيئاً بالقياس إلى محاسنها وفضائلها الكثيرة التي جعلته يرى فيها رغيبة