كانت بينهما هذه الصداقة إلا عن تآلف نفس، وتمازج روح؛ وإلا ففيم يتقاربان، والكبير يعرف من سبل الكسب وطرق الثراء، ما وراء أفق البادية الجديب، ويختلف إلى اليمن والشام يثرى ويربح، على حين ينصرف الأكبر عن المال والنشب؛ قليل الكد في سبيلهما، زاهدا في أسبابهما؛ يعتزل الناس فريدا ويتحنث وحيداً، يسائل الشمس والقمر، ويستنطق الريح والصخر، أي شيء هذا؟ وفيم العناء؟ وإلام المسير؟ وأين الثواء؟ هذه حالهما حين ربطت بينهما تلك الصداقة؛ فما إن نشك في أن هذا الصديق كان يشاطر صديقه هذا التساؤل، ويبادله ذلك التفهم؛ وإن وقف في ذلك دونه، لا يتكشف له من الآفاق ما يستشرف له الأكبر، ويطالعه في قوة روح آلف لهذا وأقدر
- ٣ -
تعارفا وتآلفا؛ وما هو إلا عام حتى ظهر النور الأنضر، وجاء الفتح الأكبر. . واسر الصديق إلى صديقه أنه قد همس في أذنه، وألقي في روعه، وتفتحت له جنبات السماء، وأنه لمحدثه عنها حديث الرائي المشاهد. فإذا الكبير على آلفه؛ يرى بعين الأكبر، يستشف ما في روحه، ويجد في قلبه صورة ما تنطوي عليه جوانحه، فيؤمن معه أو يؤمن به؛ وإذا حياتهما قد صارت إيماناً، جار الأنفاس، ملتهب الإحساس، متصل الأسباب بالحق الأعظم، فزاد ما بينهما قرباً أو اتحادا. وصارت صداقتهما على ما اشتهى الواثقون بطهر الإنسانية ومعنوية الحياة؛ إذا ما قال الأكبر أنت أحب الرجال إلي، قال الكبير أنت إلي أحب الناس
- ٤ -
اضطلع الأكبر بعبئه أمام الدهر؛ وخرج يدفع الإنسانية دفعاً، ويدير الحياة في غير مدارها، ويخط مستقبل التاريخ، وما أشق وأهول!
إذا ما أقبل النهار، وارتفعت الشمس، خرج يرى لنفسه، ويتلطف لأمره، بين بدو همل هائمين، وعتاة مأفونين، يناديهم أنه قد حل اللغز الأعقد، وظفر بالمجد الأوحد، اتصل من الله بسبب، ووقف من السماء بمنال، ويهجو إلهتهم، ويسفه أحلامهم. . فأي سخرية يلقى، وأي عناء يواجه، وبأي نقيصة يعترف. . . هو كاهن، وساحر، وشاعر، ومجنون، وممسوس، وكذاب وو. . .