فإذا ما كاد يبخع نفسه أن لم يؤمنوا؛ وإذا ما ذهبت نفسه حسرات عليهم، تلفت فإذا صورة نفسه قائم إلى جانبه، يواسيه ويرفه عنه، يمسح عن قلبه أوضار الألم، وقذائف التهم، حين يطب لجروح قد أسالتها أحجار المغترين وقذائف السفهاء المحمولين عليه، وما يزال كذلك حتى يسلمه في الليل إلى تلك الزوجة الأمينة الرزينة، التي فهمت عنه حين جهله الناس. واطمأنت إليه حين أنكره الناس. . فهو منهما في ألفة وطمأنينة. والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق. .
وكانت احن ومحن طالت بضعة عشر عاماً، فقد فيها الأكبر تلك الزوج، فكان نهاره وليله لصديقه الصدوق، وعنده انتهت مؤانسته، حين كان الهم يزداد والعناء يشتد
وخشي القوم خطر تلك الدعوة الدائبة، وهاتيك المهاجمة المصابرة، فزادوها قسوة وتنكيلا، وأشبعوا من نصرها ألماً وتعذيبا، فإذا الصديق يفي لأنصار صديقه وفاءه له: يجد في إنقاذهم، ويسعى في تحريرهم، باذلاً في ذلك ما ادخر وأثل؛ فإذا عتقاءه منهم سبعة نفر. . . ولقد أدركت ولا مراء، أنه لن يكون إلا الأعز. . . أبا بكر
- ٥ -
هذان هما، قد نبا بهما المقر، وأجمع الناس كيدهم، فهو الموت والدم بدد، والثأر ضائع؛ ولكن الصديق أبداً مخلص، هو ظله حيث سار وردؤه فيما يرى لنفسه؛ وعفاء على الأهل والمال والولد والوطن، يخليها جميعاً ويخرج من الدنيا بصديقه. . . إلى التيه إلى الشرود، إلى المغامرات، إلى الكهوف والغيران، إلى الجوع والعذاب، إلى الدرك واللحاق، إلى الموت، إلى كل كريهة، ما هي إلا المحببة حين يريدها الصديق. وما أجله وأنبله حين أنزله الغار فلم يخفف، وحسبك أنه إنما يقول له:(لا تحزن أن الله معنا)؛ وما ظنك باثنين الله ثالثهما. . أجل لقد كانا كذلك انفراداً في الغار، كما كاناه انفراداً في صداقة وولاء ووفاء
- ٦ -
رافقه إلى مأمنه؛ ولازمه في مهاجره، وتنفست الدنيا، وانبلج صبح الفوز، فظل له كما كان يوم عرفه قبل مبعثه، يبذل له قواه وروحه، كما يبذل له إخلاصه وبره؛ يحمل إليه فلذة كبده، يضعها في حجره، فتكون رسالة من قلب إلى قلب. وتمسي في النساء قرة عينه كما