للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قريب منه أو نحو من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة وتجريد نسائه جميعاً منها، وتصحيحُ النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني المرأة، وتحت جو لا يكون أبداً جو الزهر. . . وأمره من قبل ربه أن يخيرهن جميعاً بين سراحهن فيكنَّ كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة، وبين إمساكهن فلا يكنَّ معه إلا في طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها

فالقصة نفسها ردٌّ على زعم الشهوات، إذ ليست هذه لغة الشهوة ولا سياسة معانيها ولا أسلوب غضبها أو رضاها. وما ههنا تمليق ولا إطراء ولا نعومة ولا حرص على لذة ولا تعبير بلغة الحاسة؛ والقصة بعد مكشوفة صريحة ليس فيها معنى ولا شبه معنى من حرارة القلب، ولا أثر ولا بقية أثر من ميل النفس، ولا حرف أو صوت حرف من لغة الدم. وهي على منطق آخر غير المنطق الذي تُستمال به المرأة؛ فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهن، بل نفت الأمل في ذلك أيضاً إلى آخر الدهر وأماتت معناه في نفوسهن بقصر الإرادة منهن على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها. فليس هنا ظرف ولا رقة ولا عاطفة ولا سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها ولا زُلفى لأنوثتها؛ ثم تخيير صريح بين ضدين لا تتلوَّن بينهما حالة تكون منهما معاً، ثم هو عام لجميع زوجاته لا يستثني منهن واحدة ولا أكثر

والحريص على المرأة والاستمتاع بها لا يأتي بشيء من هذا، بل يخاطب في المرأة خيالها أول ما يخاطب، ويشبعه مبالغةً وتأكيداً ويوسعه رجاءً وأملا، ويقرب له الزمن البعيد حتى لو كان في أول الليل، وكان الخلاف على الوقت لحقق له أن الظهر بعد ساعة.

وبرهان آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج نساءه لمتاع مما يمتع الخيالُ به، فلو كان وضع الأمر على ذلك لما استقام ذلك إلا بالزينة وبالفن الناعم في الثوب والحلية والتشكل كما نرى في الطبيعة الفنية، فإن الممثلة لا تمثل الرواية إلا في المسرح المهيأ بمناظره وجوه. . . وقد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم أعرف به؛ وهاهو ذا ينفي الزينة عنهن ويخيرهن الطلاق إذا أصررن عليها. فهل ترى في هذا صورة فكر من أفكار الشهوة؟ وهل ترى إلا الكمال المحض؟ وهل كانت متابعة الزوجات التسع إلا تسعة برهانات على هذا الكمال؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>