للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يرعبوا عدوهم كما كانوا يرعبون رعيتهم، ولن يقدروا على تحطيمه كما كانوا يحطمون أهل بلادهم، ومنذ تحققوا ذلك طارت نفوسهم خوفاً، وغلب الحرص كل غرائزهم فقلبوا الفكر في مصيرهم، وعرضوا ما كان منهم وما يكون. أتذهب عنهم أموالهم، ويضيع سلطانهم، ويضطرون إلى مقاساة الأهوال في الدفاع والنضال؟ أيقاسمون اليوم رعيتهم ضيق الحياة وضنك العيش في القتال؟ أينزلون عن السعة والعزة والمنعة في سبيل دفاع المستميت؟ أيمدون أيديهم إلى الرعية أن هلمي إلى صف واحد نبذل فيه الحياة معا فنحيا حياة كراما أو نموت وقد أعذرنا؟ ثم جالت بخيالهم ذكريات ما سبق لهم أن أجرموا، وما كان لهم في الحكم من السيئات، وعادوا إلى أنفسهم يسائلونها: أيستطيعون اليوم أن يقفوا مع الرعية كتفا إلى كتف؟ وهل يجدون من أنفسهم الجرأة على أن يخاطبوها خطاب الأنداد الأكفاء؟ أيستطيعون أن يستنهضوها لبذل المال والنفس في سبيل الخلاص من العدو المخيف؟ وهل يستطيعون أن يخيفوا الناس من عدوهم المقبل وقد كانوا بالأمس لا يجندون الجنود إلا لكي يحكموهم بالقسر والعسف؟ جالت هذه الأفكار في رؤوسهم وهم مترددون بين الثبات والانهزام، وبين النضال والهرب فخذلتهم قلوبهم إذ رأوا أن الرعية التي آذوها بالأمس لن تجيب نداءهم لو نادوا. ولن تخلص لهم اليوم بعدما نالها من شرهم وطغيانهم؛ ولئن أجابت الرعية وتناست كل ما كان، أبقيت فيها بقية للنضال؟ إن ظلم القرون إذا أفلح في إزالة القلوب الحرة الأدبية التي تنفر من الظلم، وتأبى الاستعباد، فقد أفلح كذلك في إماتة الرجولة والنخوة، وأحال الناس إلى لأشباح مرتعدة خوارة لا تستطيع شيئا في الدفاع ولا تغني غناء في النضال. فلن يستطيع شعب أذهب الطغيان إباءه وعصف بنخوته أن يصمد في نضال البقاء في الحياة

ولم يستطع محمد شاه خوارزم عند ذلك إلا أن يعمد للهروب بما استطاع استخلاصه من أمواله وذخائره التي استلبها من دماء رعاياه وابتزها من عرق كدهم، ودموع أعينهم، ورجفة العراة منهم والجائعين، وبقى الناس بعد أن هرب ذلك الطاغي وهم كالغنم المبعثرة إذا دهمتها الذئاب، وقد هرب عنها الرعاة الجبناء. فلنسدل الستار عن نضال غير متعادل بين الشاة والذئب، ولنغمض العين عن منظر شعب من شيوخ أهل علم، وشبان أهل تجارة، وكهول أهل صناعة، ومن عمال فقراء لا يملكون ما يسدون به الرمق وزراع لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>