قلاعها عند ذلك عواصم الحدود للدولة المصرية الكبرى التي ورثت دولة بني أيوب وهي دولة الأتراك المماليك
وكان صدى أنباء تلك الغارة في مصر غير صداها في سائر الأقطار، فإن صوت التتار الذي أفزع العالم الإسلامي فأخرجه عن رشده وأفقده إرادته وجعل أهله يستسلمون للموت لا يكادون يحركون يداً، لم يزد على أنه أثار حفيظة أهل مصر، وحملهم على الاستعداد للنضال. وذلك أن مصر لم تكن كسائر البلاد الإسلامية فإنها لم تفقد كرامتها ولا رجولتها. ولم تنس معنى العزة والإباء. حقا لقد كان يحكمها أمراء من الترك، وكان قبل ذلك يحكمها بنو أيوب والفاطميون وغيرهم، ولكن هؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام إلا حكاما يقومون بخدمة الجماعة. ولم تزل مصر على توالي المحن عليها سيدة أمرها والمسيطرة على قانونها وحقوقها. ولو كان الأمر عند ذلك أمر جيش وسلطان لانتهى النضال على ما انتهى إليه نضال ملوك الشرق وجيوشهم؛ فنضال مصر مع التتار كان نضال أمة بأسرها محسة بوجودها، شاعرة بما يجب عليها أن تبذله وأن تدبره؛ وإن شئت مصداق ذلك فهاهو ذا وصف مجلس حربي اجتمع عند ذلك لينظر في أمر التتار والاستعداد لملاقاتهم
كان في ذلك المجلس ممثلوا الشعب المصري وأهل الرأي فيه من مشايخ العلماء وأئمة القانون. كما كان فيه كبار الأمراء والحكام والأعيان. وكان سلطان الوقت شابا غرا جاهلا وهو علي بن معز الدين أيبك. فتذاكر المجلس غارة العدو وما تحتاج إليه البلاد من وسائل الدفاع من مال وجند، وما لابد من بذله من مجهود جامع شامل، فكان أول ما نظروا فيه أن تساءلوا: هل السلطان للبلاد أم هي البلاد التي للسلطان؟ وهل يليق بنا في مثل هذا الوقت أن نفيم شابا غراً جاهلاً يتصرف في شؤون الدولة لا لشيء إلا لأنه ابن السلطان الذي حكم من قبل؟ ولم تطل بهم المناقشة في ذلك فاختاروا رجلاً من أكبر قواد العصر فأقاموه سلطانا بدل ذلك الصبي الصغير ودلوا بذلك على أن نظر مصر إنما هو لمصالح الدولة، وإنها إنما تختار حكامها ليقوموا بواجبهم لها لا ليكونوا سادة متحكمين فيها. ثم نظروا بعد ذلك فيما يجب جمعه من المال للاستعداد للحرب، فلنسمع الآن قول أحد مشايخ مصر وهو الشيخ عز الدين ابن عبد السلام لنعلم منه كيف كان يخاطب نواب المصريين قادة الحرب في بلادهم، وهل كانوا يرونهم سادة أم خداما: قام ذلك الشيخ الجليل عند ذلك فقال شيئا مثل