إسبانيا، فلقي فيها نفس الرفض والمطاردة؛ وكان صيته المشين قد غمر يومئذ جميع العواصم الأوربية، فلم يبق أمامه سوى الرجوع إلى إيطاليا
فعاد إليها يتجول فيها من مدينة إلى مدينة، والنحس يسايره أينما حل، والفاقة تفت في عزمه وفي آماله وأمانيه، وشبح الجوع يزعجه، ونذير الكهولة يروعه؛ لقد كان يومئذ فوق الأربعين، وقد خمدت جذوة اضطرامه، ولم يبق من ذلك الفتى المرح، والمغامر الجريء، سوى طلل متهدم؛ يقول لنا كازانوفا في مذكراته مشيرا إلى ذلك العهد:(لقد فكرت يومئذ، وربما لأول مرة في حياتي، في أيامي الخالية، ورثيت مسلكي، ولعنت الخمسين التي شارفت بلوغها، والتي قضت على جميع أحلامي، وحز في نفسي ألا أرى أمامي سوى بؤس الشيخوخة، والعطلة والفاقة، وألا تغذيني سوى شهرة مريبة، وحسرات عقيمة). أجل كان كازانوفا يومئذ كهلا، تغلق في وجهه جميع الأبواب وترغب عنه النساء! وكان أشد ما يحز في نفسه المكلومة أن يرى تلك المخلوقات الساحرة التي اعتاد أن يجذبها بروائه وسحره وذلاقته، تفر من كهولته إلى أحضان الشباب النضر!
ولما بلغ به اليأس مبلغه فكر في العودة إلى البندقية وطنه ومسقط رأسه؛ فسعى في استصدار العفو اللازم، ولم يدخر وسعاً في التقرب إلى السلطات والتضرع إليها، وعاونه على ذلك رسالة كتبها ردا على تاريخ للبندقية ظهر من قبل بالفرنسة بقلم (املو دي لاهوسي) وفيه مطاعن شديدة ضد الجمهورية ونظمها، وهي مطاعن يفندها كازانوفا في رسالته بحماسة؛ وكان لرسالته وقع حسن لدى السلطات، فاستعملت أخير لتضرعه ومنحته جوازا أمنياً بالعودة إلى وطنه في أوائل سبتمبر سنة ٧٧٤
ولكنه عاد شيخاً يجرجر أذيال البؤس والخيبة، ويلفظه المجتمع الرفيع؛ وكان صديقه وحاميه القديم السيد براجادين قد توفي، ولم يبق له عون ولا عضد، فلبث مدى حين يعاني مضض الفاقة؛ وبعد جهد جهيد عطفت عليه محكمة التحقيق وعينته مخبرا سرياً بمكافآت تتناسب مع عمله وتقاريره، ثم منحته مرتباً شهرياً قدره خمس عشرة دوقة، فاطمأن نوعا إلى هذا المركز المتواضع، واستطاع أن يغشي بعض الحفلات والمسارح، وكان لا يزال يثير حوله بعض العطف بذكائه وظرفه، وتعرف عندئذ بامرأة تدعى فرنشيسكا بوشيني، وعاش معها في نوع من الهدوء والاستقرار