بيد أنه كان يلعن تلك الحرفة الوضيعة التي ألجئ إلى احترافها؛ أجل لقد كان كازانوفا جاسوسا زرياً لمحكمة التحقيق التي يمقتها من صميم قلبه، وكان بحكم عمله مكلفا بالتحري عن المسائل السياسية والجرائم الأخلاقية والدينية، التي طالما أمعن في ارتكابها؛ وكانت تغمر البندقية يومئذ موجة من الإلحاد والانحلال الخلقي، فكان من سخرية القدر أن يسهر كازانوفا على مراقبة الفساق والملحدين؛ وكان يمضي تقاريره بإمضاء مستعار وهو مع ذلك يضطرم سخطاً لذلك الدرك الأسفل الذي هبط إليه. وفي أواخر سنة ١٧٨١ رأت محكمة التحقيق أن تستغني عن خدماته وقطعت مرتبه، فتولاه يأس قاتل، ورأى شبح الجوع ماثل أمامه، ورفع يومئذ إلى محكمة التحقيق ذلك الالتماس المؤثر الذي يدل على ذلاقته وحسن بيانه:
(إلى حضرات العظماء الإجلاء سادتي القضاة المحققين:
(أتقدم إليكم، أنا جاكومو كازانوفا، وقد غمرتني الحيرة، وسحقني البؤس والندم، معترفاً بأنني لست أهلا على الإطلاق لأن أرفع إليكم التماسي المتواضع، أتقدم جاثياً بطلب الرأفة من الدولة، وأسألها أن تمنحني بطريق العطف والجود ما لا تستطيع بعد التأمل أن تأباه علي بطريق الإنصاف
وأني لأضرع إلى الجود العالي أن يقوم بعوني حتى أستطيع الحياة، وأستطيع في المستقبل أن أقوم بالخدمات التي درجت عليها
وأن حكمتكم لتأنس في هذا التضرع الجليل صادق اهبتي ونياتي)
ولكن محكمة التحقيق لم تصغ إلى تضرعه؛ فزاد يأساً وبؤساً، وعول على الرحيل معتصما بما بقي له من جلد وعزم، فسافر إلى فينا ووصلها في يناير سنة ١٧٨٣ في حال مؤلمة من الإعياء والفاقة؛ ولبث يتجول حيناً في فينا وباريس وهولندة في ظروف نكدة مثيرة؛ ومع ذلك فإنا نراه أحياناً يحلم بمشاريع مدهشة فيفكر وهو في باريس في شق قنال أو إصدار جريدة؛ بيد أنها كانت أحلام يائس مخرف؛ وأخيراً استقر به المطاف في فينا. وهنالك تعرف بسفير السنيور فوسكاريني فعطف عليه وعينه سكرتيراً له؛ واستعاد الطريد البائس شيئاً من بهجة الحياة، واتصل مدى حين بالمجتمع الرفيع، وظهر في المآدب والمراقص؛ ولكن فوسكارني لم يلبث أن توفي، فتولاه اليأس القاتل مرة أخرى