وأقام مدى حين في تبلتز في شرحال حتى ساقته المقادير إلى التعرف بالكونت فون فالدشتاين، فتأثر لفقره ويأسه، وأعجب بذكائه وخلاله فعينه أميناً لمكتبة قصره في (دوكس) من أعمال بوهميا بمرتب حسن؛ وكانت الكونت فتى طروباً طيب القلب يعشق حياة اللهو والخلاعة ويجوب أنحاء أوربا في طلب المسرة والمتاع؛ وكانت خلاله مزيجاً من الشجاعة والضعف، والكبرياء والخجل، والبذخ والجود، فأغدق عطفه على المحب الشيخ الذي خاض غمار حياة باهرة مؤثرة وألفى نفسه بعد طول التجوال فريسة البؤس واليأس
وكان قصر دوكس مقاماً بديعاً فخماً ينبئ بما لآله من النبل التالد والغنى الباذخ، وكانت مكتبته الشاسعة المنيرة تضم أربعين ألف مجلد فخم في مختلف العلوم والفنون؛ فكان ذلك المقام النائي الذي يجد فيه المفكرة الفيلسوف ضالته، هو المستقر والمثوى الأخير لذلك الذي ضاق به وطنه، وضاقت به عواصم أوروبا
ولكم كازانوفا لم يلق الهدوء الذي ينشد؛ ذلك أنه أثار سخط الحشم والخدم بكبريائه وصلفه وجفائه، فكانوا يعكرون صفاءه بخبثهم ودسهم، وكانت نفسه تفيض مرارة من ذلك الصراع الوضيع الذي يحمله مع الخدم على قدم واحدة. وكان كلما شكا أمره إلى الكونت أجابه بابتسامة رقيقة، فإذا شكا إلى الكونتة والدته هدأت روعه بأطيب الوعود
وكان يخفف من وقع ذلك الجدل النكد على نفسه ما كان يغمره به الكونت من العطف؛ ذلك أنه كان حين مقامه بالقصر يدعوه دائماً إلى مائدته، وإلى مختلف الحفلات والمآدب. وعندئذ يستطيع كازانوفا أن يمتع نفسه بقسط من الترف الناعم، ويبدي ما كمن من خلاله ومواهبه الساحرة، ويشعر بشيء من السعادة والغبطة
وكان الدرس أشد ما يؤنسه ويملأ فراغه. ذلك أن كازانوفا كان مفكراً واسع الاطلاع، وكان يعشق القراءة والدرس، ولكن تجواله المتواصل كان يحول دون أمنيته؛ فلما استقر في المثوى الهادئ الحافل بصنوف الآثار الممتعة، ألفى فرصته، وانكب على القراءة يترع من مناهلها؛ ويدون ما عن له من زبدها. ومنذ سنة ١٧٨٦ يتحفنا كازانوفا بطائفة من الكتب والرسائل الممتعة منها. (مناجاة مفكر) , (سنة ١٧٨٦)، و (قصة ادوار واليزابيث) ' (سنة ١٧٨٨)، وهي مزيج غريب من الفلسفة والمغامرة والدين والتهكم. وفي سنة ١٧٨٨، أخرج كازانوفا كتاباً ممتعاً عن سجنه وفراره الشهير عنوانه (قصة فراري من سجون