للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من الأحايين في نفس المسيء لا في عمل من أسيء إليه لأن كثيراً من النفوس بها شهوة إلى الأذى إذا أرضتها أحست راحة وسعادة في إرضائها، غير أن بعض شهوات الأذى لا يرضيها إلا ما أرضى نفوس قدماء الرومان عند رؤية الوحوش تفتك بالأجسام، وبعض شهوات الأذى تكتفي بالغيبة والنميمة والكذب، وعواقب هذه قد لا تقل عن عواقب تلك جرماً وجناية وإن كان صاحبها لا ينعت بالمجرم الجاني وإن كان ضميرها أهنأ الضمائر بالاً وأرواحها خاطراً

والضمير كثيراً ما يكون في الحياة كالسفينة الصغيرة في البحر المحيط الذي هاجته الأعاصير فقد لا تغرق السفينة كما لا يغرق الضمير ولكنها تضطر أن تسير في مهب الإعصار كما يسير الضمير في مهب أعاصير الميول النفسية وما تقتضيه من كذب ونفاق

والكسب والجاه والصداقة والغرور هي العقاقير التي تخدر الضمائر بها، وهي البلسم الذي تداوي به آثار وخزاتها، وهي المادة اللزجة التي تطلى بها الضمائر كي يصطاد بها أصحابها طيور السعادة واللذات والمكاسب كما تطلى الغصون بتلك المادة اللزجة التي تلتصق بها العصافير على غصون الأشجار ثم يأتي الصائد فيجمعها أو هي المادة اللزجة الأخرى التي يطرد بها الذباب اللاذع المسمى بخواطر التأنيب والوخزات

ومن أجل ذلك كثيراً ما ترى ضمير المرء عوناً للجاني الذي يرجى نفعه أو جاهه أو وده أو يرجى منه إرضاء غرور صاحب الضمير المناصر له. والناس في سرائرهم يعرفون أن ضمائرهم ليست دائماً مصباح الهداية الذي يدعونه، والإنسان يتجنب فحص نفسه والبحث عنها، وإذا كلف أو دفع إلى ذلك حاول التخلص من فحص نفسه فيقلب فحصها إلى حديث فيحدث نفسه أو تحدثه ويمنيها أو تمنيه، ثم يعود فيقول إنه فحص نفسه وهو قلما يفعل ذلك إلا إذا دهمته مصيبة تجعله يشك في نفسه فيفحصها فإذا لم تدهمه مصيبة تجنب فحص نفسه إلا إذا كان مريضاً بداء الخوض في النفس وفحصها وقد يكون مرضاً إذا استفحل وعم وتطلب منه كل وقته، ولكن مرض البحث في النفس هذا مرض نادر في الناس وأكثرهم لا يبلغ به البحث في نفسه منزلة صغيرة أو كبيرة ولو أن هذا البحث في النفس أصبح عادة لقل شرهم من غير أن يمنعهم بحثهم من الإقدام في الحياة إلا إذا استفحل وهو قلما يستفحل فيدعوهم استفحاله إلى الشك والتردد والإحجام واتهام النفس في كل أمر

<<  <  ج:
ص:  >  >>