النيل إذن شخصية كبيرة كما عرفه الكولونيل لورنس، وقد يكون أكبر شخصية في تاريخ الشعوب التي عمرت شواطئ البحر المتوسط. قال هيرودوت قديماً:(مصر هبة من هبات النيل) وهذه حقيقة لأن مصر قيمتها بنيلها، ولولاه لكانت مفازة قاحلة لا شأن لها، فهي شقة من الأرض تمتد من النوبة إلى الدلتا ويجري فيها خط طويل دائم الاخضرار، ولولا هذا المجرى الحيوي الذي ينساب في أحشائها ويروي غليلها لما كان للإنسان والنبات والحيوان حياة فيها، لأنها لا تعرف المطر إلا نادراً
في شهر يونيه ترتفع مياه النيل فتفيض على الأراضي ناشرة عليها طبقة من الغرين الذي يعد من أحسن أنواع السماد. ويبلغ معظم فيضانه في أول أسبوع من شهر أغسطس، فترتفع مياهه إلى ستة أمتار، ثم تتناقص تدريجاً فيأتي الفلاح ويشق وجه الأرض بسكته التاريخية التي تشابه سكة سلفه منذ ألوف السنين ويستغل خيراتها في شهري أبريل ويونيه
جعل النيل من مصر بلداً خصباً غنياً، فلا غرو أن سبق المصريون الأقدمون شعوب الأرض في ميادين الحضارة والثقافة. كانت مصر موطئاً لثماني عشرة سلالة من الفراعنة قبل ظهور موسى، وكانت مسرحاً للحوادث التاريخية الكبيرة قبل أن تظهر للوجود أشور والفرس واليونان. ثم كانت مقصداً لطلاب العلم والفلسفة والثقافة من جميع الأنحاء، فهي إذن كانت مهذبة الإنسانية وحاملة نبراس المدنية في العصور القديمة
ولكن إلى أي شيء يعزى تفوقها في تلك العصور التي كانت شعوبها في حالة البربرية؟ كلمة واحدة تجيب على هذا السؤال، وهي: النيل
لقد تعلم المصري القديم كل شيء من نيله، ولأجل نيله استنبط علم الفلك لكي يحدد أوقات الفيضان، واخترع التقويم والحساب، وعلم الهندسة والمساحة، وإنشاء السدود وشق الترع، لكي يستثمر النيل وينتفع بخيراته. وإننا لنجد ذكر النيل ورسومه في أساطير مصر وفي كتب ديانتها، وفي كل شأن من شؤونها، فهو من مصر كالروح من الجسد