إن بلداً كمصر يتوقف عمرانها بل حياتها على نهر، لا بدع أن يهتم أولو أمره قديماً وحديثاً بالموضع الذي يخرج منه هذا النهر ويراقبوه بعين يقظى. وكما يشغل اليوم بال الإنكليز خطر تحويل مجرى النيل الأزرق إذا ما استولت على الحبشة دولة قوية، كذلك كان يشغل أفكار الفراعنة منذ ألوف السنين مثل هذا الخطر، فكانوا يحاولون دائماً التسلط على الحبشة التي كانوا يدعونها بلاد كوش لكي يأمنوه. ولم يكن الأحباش أنفسهم غافلين عن هذه الفكرة ولكنهم لم يستطيعوا إخراجها إلى حيز العمل الكبير لافتقارهم إلى الأدوات اللازمة، وحتى اليوم لا يزال ضعف الإمبراطورية الحبشية وتأخرها في مجالي الحضارة ضمانة لسلامة مجرى النيل الأزرق. أما إذا استولت على الحبشة دولة أوربية صناعية مثل إيطالية، فما يمنعها غداً إذا أرادت أن تستثمر - كما تشاء - الثروات الطبيعية في بلاد مساحتها نحو ضعفي مساحة فرنسا أن تحول النيل إلى غير مجراه الحالي؟
إن هذه الفكرة وحدها كافية لأن ترعب إنكلترا التي ترى في تحقيقها خراب السودان ومصر، ولا عجب إذا رأيناها في موقف الجد والحزم إزاء المشكلة الحبشية التي هي في الحقيقة معضلة النيل وذيولها الخفية.