للظهور بمظهر المخالف، بل كان في الحقيقة يمثل حالته النفسية والعصبية، فقد كان يرى أن الألم في الحياة أمر قائم بذاته، وأن اللذة هي انعدام الألم، وذلك طبيعي بالنسبة له؛ فما كان يشعر باللذة في حياته إلا في الوقت الذي ينصرف فيه الألم الجسدي عنه!
وقد تنبه الأستاذ العقاد إلى هذه الناحية عند التعقيب على تلك المناقشة فأشار إلى أنه لا ينكر أن (الزهاوي) يكابد من حياته ما له دخل كبير في تمكين هذه العقيدة من نفسه
فالتطرف إذن هو الظاهرة التي تتركب عليها نفسية الزهاوي في حياته الشخصية وحياته الأدبية؛ وإذا أدرك الناقد أو المؤرخ علة ذلك في تكوينه وفي أعصابه، فسيدرك بطبيعة الحال أن الإغراق والتطرف في شعره قد يؤديان في بعض الأحيان إلى ظهوره بمظهر المنقلب على نفسه، وعلى ذلك فليس في شعر (الزهاوي) تناقض أو رجوع، بل هي حالات نفسية جارفة تقلبت عليه في وقتها فأنطقته بما خيل إليه أنه لا يتعارض وآراءه السابقة، أو للتخلص من الضيق الذي سببته له بعض آرائه الجريئة، كان يريد به تخفيف وطأة الطبقات المتعصية عليه؛ وفي هذه الناحية كان يبدو على شعره الشيء الكثير من التعمل الظاهر فيه حمله على نفسه، وهنا لا يصح اعتبار مثل هذه الحالات ميزاناً للحكم على آثاره الأدبية والشعرية
يخطئ أشد الخطأ من يفاضل بين الزهاوي ومعاصريه من شعراء العراق، فإنه فضلاً عن سخافة فكرة المفاضلة لن تتوفر فيها الشروط الأساسية المطلوبة، فإنهم ليسوا (معاصريه) حقاً ولا يمتون إليه بصلة العصر. بل كان عمره المديد المليء بخدمة الشعر والمساهمة فيه مثار الأشكال في فهم شعره وحياته. فهو من بقايا القرن التاسع عشر، وليس من رجال القرن العشرين، وما كان بوسعه أن يخرج على نفسه في هذا الأمر طيلة حياته
وإذا كانت خطوات البشرية في عصورها السابقة للقرن التاسع عشر قريبة المدى من بعضها، وإذا كان التشابه والتقارب بين تلك العصور موجودين فهما في هذا العصر قد بلغا آخر درجات التباعد. وقد مرت مئات السنين على البشرية في (عصور الظلام) فما كان لتلك السنين المديدة أن تؤثر تأثير بضع سنوات في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، فيكاد هذان العصران يمثلان (سن الرشد) للبشرية والدهر، ففيهما استيقظ الإنسان وأحس وأدرك، وظل كذلك يخطو بسرعة فائقة حتى لقد كاد أن يكون من المشكل التفاهم