وقطّع من أوصالها ما أراد، وبعد أخطاء أتاها كثيرة هي دائماً مقدّمات النجاح، ولم يمض طويل من الزمن حتى نجح في تحصين الشياه تحصيناً قوياً، واستدرّ منها دماً كثيراً واستخلص منه مصله، ثم قال:(لا شك أن الترياق الذي بهذا المصل يقي من الدفتريا)، ولم يكن يعلم عن حقيقة هذا الترياق، ولا عن كيميائيه شيئاً
وحقن مقادير صغيرة من هذا المصل في عدد من الخنازير الغينية، وفي اليوم الثاني حقن فيها بشلة الدفتريا، وهي حية قاتلة، فما كان أجمل مرأى هذه الخنازير بعد ذلك وهي تنط وتلعب ولا أثر للداء فيها، كذلك كان مرأى صويحباتها الأخريات التي حُقنت بالبشلة دون المصل، وهي تموت بعد الحقنة بيومين أو ثلاثة، فموت هذه الأخيرة هو الذي أقنع بأن المصل فيه الوقاية وفيه الحصانة، وأجرى بارنج مئات من هذه التجارب الجميلة، وكان الآن يحذق التجريب فلم يكن في يده تذبذب واضطراب كالذي كان بها قديماً. وتساءل أعوانه في قنوط متى يفرغ سيدهم من هذه المجزرة المتكررة، متى يفرغ من تحصين طائفة من الخنازير ثم إعطائها الداء، ثم من قتل طائفة أخرى ليثبت بها حقاً أنه خلّص بمصله الطائفة الأولى، ولكن بارنج لم تعوزه العلة يفسر لنا بها كثرة ما قتل من هذه الخنازير. قال في أحد تقاريره الأولى:(لقد جربنا من هذه التجارب عدداً كبيراً لنثبت لكوخ، وهو المحقق المدقق القليل التصديق، إلى أي حدّ بلغ بنا الإيمان بحصانة هذه الحيوانات)
نجح بارنج فيما أراد إلا أمراً واحداً أفسد عليه طعم الثمرة التي اجتناها. ذلك أن حصانة الخنازير لم تدم طويلاً، فالخنازير لم تكن تصمد للحقنة الكبيرة من سم الدفتريا من بعد تحصينها إلا أياماً معدودات، فإذا مضى على التحصين أسبوع أو أسبوعان لم تعد تصمد لها، ولكما استطال الزمن أخذت حصانتها تقل تدريجا، وأخذ مقدار السم الذي يكفي لقتلها يصغر تدريجا. وعمد بارنج إلى لحيته يشد شعراتها وهو يتمتم لنفسه:(ليس هذا من العمليّ الممكن في شيء، فليس بالمستطاع الطواف بكل أطفال ألمانيا لحقنهم بمصل الشياه كل أسبوعين أو ثلاثة). ومما يؤسف له أنه نفض يده بعد ذلك من البحث الجميل الذي هو فيه، وترك المطلب الأسمى الذي كان يطلب به طريقة لمنع داء الدفتريا أن يحدث واستئصاله فلا يكون، واستعاض عنه يطلب دواء له إذا هو كان، فنزل بنفسه منزلة دنيا