للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إذا قام عليه الدليل القاطع. فتشريع الدين تأويل النص إلى ما يوجبه العقل أو بالأحرى إلى ما يطابق ما ثبت عند العقل بالدليل القاطع، هو التنفيذ العملي في الإسلام لمبدأ استحالة التناقض بين الحقائق ولمبدأ وجوب الأخذ بالحق كيفما ظهر وأينما كان. فالحق في العلم وفي الإسلام أحق أن يتبع لذاته لا لغيره، وفي سبيل الحق يجب أن يجاهد الناس، وعلى الوصول إليه يجب أن يتعاونوا، وبه إذا وصلوا إليه يجب أن يستمسكوا. هذا هو أخص خصائص الروح العلمية في ميدانها، وهو في الوقت نفسه أخص خصائص المؤمن حتى في المعاملة. فإن الصفات التي ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم بها الجنة إذا هو ضمنها من نفسه في الحديث الكريم: (اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف: غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) هذه الصفات ليست في صميمها إلا أخذاً بالحق في أعم صوره، واحتراماً له ووقوفاً عنده

لكن فخر العلم الحديث ليس هو جعله العقل أصل الأصول في النظر، ولكن هو ضبطه طريق النظر العقلي، حتى صار العقل به في مأمن من الضلال. إن قدماء العلماء والفلاسفة كانوا أيضاً يكبرون العقل ويتحاكمون إليه، وهذا المنطق القياسي الذي يعين الطريق الذي يجب أن يسلكه العقل في الاستنتاج ليكون بمأمن من الخطأ، هو من وضع أولئك القدماء. فليس للعلم الحديث على العلم القديم في هذا فضل، بل الفضل في توضيح طريق الإصابة في الاستنتاج، هو للعلم القديم أو الفلسفة القديمة كما تشاء أن تقول. لكن الذي غفل عنه القدماء، وانتبه إليه المحدثون، هو وجوب الاستيثاق من صحة المقدمات قبل القول بصحة النتائج، ولو صحت طريقة الاستنتاج. كان القدماء يعنون كل العناية بالاحتياط من الخطأ في الاستنتاج، ولو أنهم عنوا بصحة المقدمات عشر معشار تلك العناية لتغير تاريخ العلم، ولتغير تاريخ العالم بالتبع، ولما تأخر الرقي العلمي كل تلك القرون، لكن أكثر القدماء كانوا فيما يظهر يتغالون في الاعتماد على العقل وحده حتى جعلوه كل شيء، وجعلوه مستغنياً عن كل شيء. فالعالم أو الفيلسوف كان يرى كافياً في طلب الحقيقة أن يجلس ويفكر، ثم يفكر، كأن الحقائق كلها موجودة كامنة في النفس أو الروح، وكأن ليس على الإنسان إلا أن يستثيرها بالتفكير. من أجل ذلك لم تعش الفلسفة القديمة أو العلم القديم إلا بصحة التفكير

<<  <  ج:
ص:  >  >>