على الأخص، وهي العناية التي أدت به إلى اكتشاف قوانين التفكير ووضع علم المنطق القياسي. أما المقدمات فكان العالم أو الفيلسوف يكتفي من الاستيثاق منها بالاقتناع النفسي والرجوع بها إلى ما يبدو له أنه بديهي لا يحتاج إلى برهان. ومن هنا دخل في العلم أو الفلسفة القديمة الشيء الكثير من الباطل، أو على الأقل مما هو غير ثابت؛ دخل فيها على أنه حق لا شك فيه، فكان عبئاً ثقيلاً على العقل عاقه عن التقدم الحقيقي طوال تلك القرون
ولقد جعلت تلك الطريقة أمر تمييز الحق من الباطل في العلم القديم من الوجهة العملية بيد المصادفة لا بيد العقل، فكان الإنسان إذا صادف الصحة في مقدماته الأولى أو بديهياته التي يُرجع إليها مقدماته نجا من الخطأ بعد ذلك لاجتماع ركني الإصابة لديه: صحة المقدمات وصحة التفكير. ومن هنا كانت علومه الرياضية أصح تراث منه وصل إلينا. أما إذا أخطأه التوفيق في المقدمات فلا تسل عن العجائب والغرائب التي كان يؤدي به إليها قياسه الصحيح من مقدماته العليلة. أنظر إليه وهو يحكم على شكل العالم أنه كرى لأن شكل الكرة أكمل الأشكال، أو يحكم على العالم أنه حي عاقل لأن ما هو حي وعاقل خير مما ليس بحي ولا عاقل. وتأمل ما جر إليه القول بحياة العالم وعقله من القول بأفلاك ذات نفوس وعقول كل فلك منها نشأت نفسه وعقله عن نفس الفلك الذي فوقه وعقله، وأشباه هذا مما يعجب له العلم اليوم كيف أمكن أن يتورط فيه العلم بالأمس، إذا العلم والفلسفة كانا شيئاً واحداً في العصر القديم
هذا النوع من التفكير الوهمي قد سد العلم الحديث بابه، وقطع أسبابه بايجابه أولا عدم قبول شيء على أنه حق حتى يقوم عليه البرهان القاطع، وبرجوعه ثانيا إلى التجربة والمشاهدة في تمحيص المقدمات. هذان هما المبدآن اللذان قامت عليهما الطريقة العلمية الحديثة، واللذان يرجع إلى التزامهما والتشدد في تطبيقهما كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم في ميادين العلم الحديث
فأما المبدأ الأول مبدأ اشتراط قيام الدليل القاطع على صحة القضية قبل إدخالها في دائرة الحق فهو مبدأ سلبي، ولكنه في غاية الخطورة لأنه حال دون الخلط بين الحق والباطل، وميز دائرة الشك من دائرة اليقين، وجعل العلم على بينة من أمره فصار يعرف تماما أين هو من الحق ومن الباطل: صار يعرف أي القضايا هو فوق الشك وأيها في حاجة إلى