لكن هذه المعرفة لم تكن لتغني عنه كثيرا لو لم يجد العلم وسيلة صادقة لتمحيص ما هو منه في شك، فيزيد باطراد في دائرة الحق المعلوم، وينقص باطراد من دائرة المجهول. لكنه وجد هذه الوسيلة في مبدئه الثاني مبدأ التجربة والمشاهدة. وهو كما ترى مبدأ إيجابي يقوم بجوار مبدئه السلبي الأول: يحرس الأول منطقة الحق أن يدخلها باطل، ويوسع الثاني حدود المنطقة باستمرار. ولقد اقتضى هذا أن يقصر العلم نفسه من ميادين البحث على ما يمكن الاحتكام فيه إلى التجربة والمشاهدة، أو كما عبر بعض العلماء فأحسن التعبير على الميادين التي يستطيع أن يسأل فيها الإنسان الفطرة فتجيب. والفطرة على حد تعبير عالم آخر دائماً تجيب إذا أحسن الإنسان سؤالها. وأكبر الفرق من الناحية العملية بين العلم القديم والعلم الحديث أن هذا عرف كيف يحسن استجواب الفطرة، وأن ذاك في الأوقات القليلة التي خطر له أن يسترشد بالفطرة لم يعرف كيف يحسن سؤالها بإجراء التجارب المنظمة، وإن عرف أحياناً كيف يسمع لها بمشاهدة بعض ما يجري حوله. وبالجملة فإن أكبر ما يميز العلم في عصره الحديث عن مثله في العصر القديم هو إجماع أهله على اتباع ذينك الأصلين: أصل التفرقة التامة بين اليقيني وغير اليقيني، وأصل تمحيص غير اليقيني بعرضه على التجربة والاختبار
هذان الأصلان اللذان هما قوام الطريقة العلمية، واللذان إليهما يرجع كل ما أدرك العلم في ميدانه من تقدم، ما شأنهما في الإسلام كما يتجلى في القرآن؟
إن الذي أنزل القرآن روحاً من أمره وهدى يهدي به الإنسانية سبل الحياة شاءت رحمته بعد أن جعل العقل أصل الأصول في النظر ألا يكل الإنسان إلى عقله من غير أن يبين له معالم الطريق ويحذره مهاوي الخطأ والضلال. فهو أولاً يوجب على الإنسان في القرآن ألا يُدخل في الحق إلا ما قام عليه البرهان والدليل أنه من الحق (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) وفي هذه الآية الكريمة نرى كيف ينبه الله الإنسان إلى أن الظن والتخمين ليسا من العلم والبرهان في شيء، وهو معنى لقي توكيداً عظيما في القرآن بوروده صريحاً في أكثر من آية. (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من