فيقاطعها لامرتين مبتسما: عرفت الآن! إنك شاعرة كالنسمات التي تهب بين أشجار الزيتون، أو كالندى الذي يبلل أثمار التين!
فتجيبه: لست شيئاً من ذلك يا سيدي؛ إني خياطة وضيعة لا أبرح غرفة عملي إلا نادرا، وسلوتي الوحيدة الدرس والمطالعة، وليس يؤنسني في وحشتي وانفرادي إلا عصفور غرِّيد، ولكن هذا كله لا يهمك أمره، لقد سألتني عن سبب قدومي إلى مرسيليا وكيف عرفت بقدومك إليها، فأجيبك أني قرأت منذ أيام في صحف هذه المدينة أبياتاً من الشعر الرقيق ليوسف أوتران في مدح لامرتين والترحيب به، فشوقتني هذه الأبيات إلى رؤية الشخص الذي أوحى إلى شاعر مقاطعتنا نظم تلك الأبيات الجميلة، وبتُّ لا أستطيع صبراً على ذلك. وبعد وثوقي من وجودك هنا قدمت لزيارتك دون أن أهتم بملبسي أو بغيره مما يجعلني أهلا للمثول في حضرة رجل مثلك؛ وهأنا أمامك الآن لا أدري ماذا أقول ولا ماذا أفعل، وربما حملتك حالتي هذه على الاعتقاد بأني امرأة جسور مغامرة أتت تخدعك وتدعي ما ليس فيها، مع أن الحقيقة هي ما أوردته لك بالتمام، وبعد أن شاهدتك وعرفتك وحدثتك وحظوت منك بهذا الاستقبال اللطيف سأعود إلى قريتي حاملة أجمل ذكرى لهذه الزيارة
فيقول لها لامرتين: خففي عنك أيتها الآنسة! لم يمر في خاطري قط أنكِ لست كما تذكرين، فملامحك أنصع دليل على صدقكِ وسلامة طويتك، وإذا كانت الألسنة تخدع أحياناً فالعيون لا تضلل أبداً؛ ففي عينيك بريق يشفُّ عن براءة ونقاوة لا يمكن أن تكونا برقعاً لامرأة كاذبة نمامة. إن الطبيعة لم تخلق الملامح كذوبة، فأنا أثق بكِ كما لو كنت أعرفك منذ الصغر، ولذلك لا أسمح لكِ بالانصراف ما لم تحدثيني طويلاً وتشاركينا في العشاء؛ لقد ذهبت زوجتي لتغيير ثوبها ولا تلبث أن تأتي لاستقبالك والقيام بواجب الضيافة نحوك. وقبل أن يحين وقت العشاء أخبريني كيف تولد فيكِ هذا الميل إلى المطالعة، وهذا الهيام الشديد بالشعر والشعراء، والتعرف إلى الأدباء الذين طالعتِ رواياتهم
فتروي له قصتها قائلة: اسمي رينه جارد، وقد وُلدت في قرية قريبة من إكس، ودخلت صغيرة في خدمة السيدة. . . ورافقت نشوء الأولاد، ونعمت بعطف الأبوين وصداقة الصبايا، وكنت أصغي إلى ما يتعلمنه على الأساتذة وأطالع كتبهن في أوقات الفراغ،