لم تعد تستطيع العيش حيث نكبت في قلبها، فما لبثت أن حزمت متاعها وزمت حقائبها واستقلت القطار السريع من البصرة مسقط رأسها. . إلى بغداد حيث أختها. فلقيت حنواً وعطفاً لا مزيد عليهما
شربت قدح الشاي بأسلوب خاص ورشاقة فذة. . ثم شرعت في محادثة جليساتها بصوت موسيقي رخيم تخللته ضحكات صافية الرنين لكنها قصيرة يختفي تحتها ألم مكبوت وهم دفين
وجذبت نفساً طويلاً من سيكارتها، وألقت على متكأ الأريكة برأسها الجميل فبدت تقاطيع وجهها الرائع الفتان وجيدها الأتلع، وتناثرت خصل شعرها الكستنائي السبط فبان جبينها الأسمر العاجي الوسيع. . ونفثت الدخان ناظرة إلى السقف، كان صدرها يعلو ويهبط باتزان، وكانت عيناها الجميلتان تشعان شعاعاً ينم عن ذكاء متقد وحس دقيق وعاطفة فياضة متوثبة وروح حزين وثقة بالنفس نادرة عند النساء. لم يكن شأن من شؤون الحياة، غير ذكرى حبها، ليشغل بالها. فليس سبب قلة كلامها وطول تفكيرها وإيجازها أن تحدثت إلا تلك الذكرى، فموارد عيشها كانت وفيرة برغم كثرة مصاريفها، فهي في حرز ومأمن من هذه الوجهة. فلقد كان ما تدره عليها أملاكها الموروثة عن الجدود ما يفيض عليها النعمة
ودار بخاطرها طائف من الشك: لماذا هجرها حبيبها؟ أهي غير جميلة؟ وبدا لها أن تخرج من الغرفة، فاستأذنت عجلى ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح وأقبلت على المرآة الكبيرة في خزانة الملابس وراحت تحدق فيها. فاطمأنت وزال شكها وأخذها شبه غرور. لكنها سرعان ما أحست بألم يرمض فؤادها وبنار تحرق وجهها ورأسها، وتخاذلت تخاذل المرأة المطعونة في كرامتها، وألقت نفسها على السرير قبالة المرآة، وراحت تناجي نفسها: إيه أيتها الطبيعة! هل أوجدت هذا الجمال الفتان ليقاسي هذا العذاب؟ فهل مثل هذا الشباب الغض يستحق هذا العقاب؟ وهل مثل هذه الروح الفتية تستحق خيبة الأمل، وتابعت محادثة نفسها، وهي تنظر إلى صورة لأفروديت كان الحبيب الغادر أهداها لها، وأنت يا آلهة الحب. ربطت بروابطك قلبي بقلبه فأخلصت وخان. . ولبيت نداءك وصم هو أذنيه.